جاءت ثورة ال 25 من يناير لتخرج جماعة سلفية إسكندرية المنشأ من جحرها التى ظلت قابعة فى داخله منذ سبعينيات القرن الماضى.. ظل شيوخها طيلة هذه الأعوام رافعين شعار «منشغلون بالسياسة لا مشتغلون بها» إلا أن السياسة كانت قد سحرتهم ببريقها فانخرطوا فى تفاصيلها حتى إذا اندلعت الثورة وأطاحت بنظام طالما شكل مخلبًا فى وجه الشيوخ خرجوا عن بكرة أبيهم ليقرروا التخلى عن الانسحاب من المشاركة السياسية وخوض المعترك السياسى هكذا دفعة واحدة. لم يكن من السهل إقناع الأتباع مبررات التحول إلى عالم السياسة والمشاركة فى الانتخابات والاقتراب من الصناديق التى وصفها الشيوخ من قبل ب«الكفرية» لاعتبارات عقلانية ومصلحية وحسب، بل لابد من التنظير الشرعى الذى استخدمته الجماعة من قبل فى شرعنة موقفها، ومن ثم كان بمثابة العفريت الذى يجب على المشايخ صرفه كما أحضروه. هنا كانت المحطة الأولى التى خسر فيه الحزب بعضًا من هيبته وكرامته إذ أنه اضطر إلى لى ذراع النصوص الشرعية لتبرير موقفه المتحول مما أفقده الدفعة الأولى من أتباعه ومؤيديه من السلفيين الذين لم يرق لهم ما آلت إليها الجماعة وشيوخها. لاشك أن الجماعة استطاعت بعد ذلك فى جنى مكاسب سياسية بمجرد إنشائها حزبًا سياسيًا رأت مكونات إسلامية سلفية عديدة فيه مادة لإرضاء شهيتها السياسية التى تعرضت للكبت طيلة ال30 عامًا الماضية فسارعت للانضمام له على أمل أن يتمكن ذلك الحزب من إقامة دولة إسلامية برؤية سلفية بعيدًا عن الرؤية الإخوانية التى يعتقدون أنها بات يشوبها كثير من الانحرافات الفكرية والعقدية. وبعد أن ضم الحزب كثيرًا من تلك الشرائح التى كان يعلم جيدًا أنها ليست من أتباعه «الخُلص» على حد تعبيره، تعرض للضربة الأولى التى جاءته من الداخل بعد أن شعر قادة الجماعة أن زعيم الحزب وعددًا من مساعديه يفكر جديًا بالانفصال عن الجماعة فكان التبكير بالإطاحة بالدكتور عماد عبدالغفور الذى اصطحب فى رحيله عددًا لا بأس به من القادة والأعضاء ليأسسوا حزبًا جديدًا وهو حزب الوطن. شعر شيوخ الدعوة أن أصابع الإخوان تلعب فى مفاصل الحزب بعد أن أعلن غالبية شيوخ الجماعة تمردهم المبكر على الإخوان، والذى تمثل فى عدد من المواقف أبرزها إصرار النور على الحصول على حصة كبيرة فى التحالف الديمقراطى الذى كان قد أنشأه الإخوان قبيل الانتخابات البرلمانية فى 2011 ثم ذهاب النور للتحالف مع الجماعة الإسلامية، والحصول على ما يقرب من ثُلث البرلمان آنذلك، وهو ما لم تنسه الإخوان للسلفيين الإسكندريين. ثم خسر الحزب دفعة أخرى من أبنائه غير الخالصين عندما أصر على تأييده لعبدالمنعم أبو الفتوح وهو الرجل النصف ليبرالى فى عيون كثير من السلفيين، وانشق الآلاف عن الحزب متجهين فى اتجاه الزعيم الإسلامى الجديد حازم صلاح أبو إسماعيل الذى رآه منه قادة السلفية والإخوان معًا خطرًا يهدد مكانتهم ونفوذهم، وعند تأكد خروج أبو إسماعيل ذهب هؤلاء فى اتجاه تأييد محمد مرسى باعتباره أكثر محافظة من نظيره أبو الفتوح الذى ذهب لزيارة نجيب محفوظ أو تحدث عن الأقباط بوصفهم مواطنين لهم كل الحقوق الدستورية التى للمواطن المسلم. وظل النور ينزف أكثر فأكثر عندما احتدم الصراع بين الكتلة المدنية والكتلة الإسلامية بزعامة الإخوان حيث نجح الإخوان فى استقطاب كل الفصائل الإسلامية فى مواجهة من ادعت أنهم علمانيون وبقى النور وحيدًا كشوكة لا يستطيع بلعها أحد من الإسلاميين ولا المدنيين. حاول النور الحصول على مكاسب سياسية معتبرًا نفسه طرفًا على الحياد فطرح مبادرته لحل الأزمة المحتدمة بين الكتلة المدنية المتمثلة فى جبهة الإنقاذ وجبهة الإسلاميين المتمثلة فى تحالف دعم الشرعية إلا أن الإسلاميين أنفسهم لم يسمحوا له بالحصول على ثمة مكاسب، وباءت مبادرته بالفشل، وفى هذه الأحداث تعرض النور لنزيف آخر فى كتلته وانسحب من كيانه الآلاف الذين قرروا الانحياز لجبهة الإسلاميين فى مواجهة المدنيين. ثم جاءت ثورة يونيو، وتأييد النور الصريح لها فكانت الضربة التى قصمت ظهر الحزب وأفقدته الكثير من عناصره الذين ذهبوا لاعتصام رابعة متضامنين مع إخوتهم من الإسلاميين إلا أن الحزب حاول أن يظهر بمظهر القوة نافيًا أن يكون قد تعرض لموجات انشقاق حتى يستطيع مساومة الدولة فى البقاء على الساحة السياسية ملمحًا لها بأنه يمكن أن يلعب دور البديل الإسلامى المعتدل الذى تعلم من أخطاء أقرانه من الإسلاميين وأنه يمكن أن يضفى مسحة الشرعية على النظام المصرى الجديد بعد 30 يونيو. واستطاع الإسلاميون توجيه ضربات معنوية وإعلامية لما تبقى من الحزب بعد فض رابعة فى محيط التيارات الإسلامية باعتباره مسئولًا عن دماء التى أريقت فى الميدان، ثم توالت الانشقاقات التى ضربت كتلة الشيوخ نفسها الذين دعوا إلى ترك الحياة السياسية والعودة إلى حقل العمل الدعوى مرة أخرى. بقى حزب النور كفتوة ظل يخدع أهل حارته بأنه قوى مفتول العضلات حتى إذا سقط فجأة اكتشف الناس أن عضلاته لم تكن سوى لفائف من القماش.