كما كان متوقعاً، خرج الإخوان المسلمون صفر اليدين من ماراثون الانتخابات البرلمانية فيما أصبح حلمهم بالسيطرة علي حكم مصر محكوماً عليه بالفشل .. حقائق لا تخطئها العين أفرزتها الخسارة الفادحة للجماعة ومرشحيها في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة وأكدتها الباحثة الفرنسية بمعهد الدراسات السياسية بباريس، ليسلي بيكمال، استناداً إلي أن المشروع السياسي للإخوان ليس مدنياً، كما يدعي البعض منهم، لكنه يمزج بين الدين والعمل العام علي نحو صارخ، ما يجعل من كافة الأبعاد السياسية التي تؤمن بها الجماعة والتي ترغب في تأصيلها وتطبيقها إذا ما وصلت إلي كرسي السلطة – حسبما أشارت بيكمال خلال لقاء عقد في مقر القنصلية الفرنسية بالقاهرة قبل أيام تحت عنوان "المشروع السياسي للإخوان المسلمين: دولة مدنية أم دولة دينية؟"- محل شك وارتياب ومعارضة من قبل كافة القوي السياسية المصرية، بل ومن قبل المعارضة الداخلية الإصلاحية في الجماعة نفسها. لم تكن الباحثة الفرنسية المعروفة، والمتخصصة في الشأن المصري، ليسلي بيكمال، هي الوحيدة التي توقعت السقوط المدوي للإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب، ومن ثم ضياع كافة مخططاتهم للسيطرة علي مقاليد الحكم في مصر في المستقبل القريب، إذ بدا أن هناك شبه إجماع بين كافة المراقبين والمتخصصين علي أن الجماعة قد فشلت في استثمار تواجدها الرقمي اللافت في برلمان 2005 88) نائباً) وبدلاً من أن تسعي لتوطيد علاقتها بكافة الأحزاب والتيارات السياسية المصرية وتكسب أرضية إضافية بين الكتل الصامتة من المواطنين وكذا بين النخب المثقفة بحيث تقوي شوكتها في ساحة العمل العام، راحت تتعامل مع الجميع بنبرة فوقية مستفزة وبآليات جماعة دينية منغلقة، ما أفقدها الزخم المؤقت الذي نالته قبل خمس سنوات، وهو ما يذهب إليه الدكتور وحيد عبدالمجيد، رئيس وحدة الترجمة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، قائلاً: "الجماعة نالت 88 مقعداً كان علي حساب علاقتها بالمعارضة التي كانت تتيح أرضية للعمل والحركة، لكن الإخوان حاولوا استعراض قوتهم وتعاملوا مع القوي الأخري بتعال وغطرسة ففقدوها وسقطوا في فخ الانعزال". وبعيداً عن كافة الأسباب التي تسوقها الآلة الإعلامية الإخوانية لتبرير الانتكاسة البرلمانية للجماعة وفي مقدمتها التضييقات والضربات الأمنية، فإن أداء نواب الإخوان في الفصل التشريعي الأخير يفضح الأسباب الحقيقة لخسارتهم أكبر غطاء سياسي نالوه عبر ثمانية عقود متعاقبة هي كل تاريخهم، إذ يشير الدكتور عمرو هاشم ربيع، الخبير في شئون البرلمان والاحزاب، إلي أن المشاركات الأولي للإخوان برلمانياً عام1984 و1987 كان لافتة بعدما لجأت الجماعة، اتساقاً مع آليات النظام الانتخابي القائم في ذلك الوقت علي نظام القائمة الحزبية، لإقامة تحالفات مع الأحزاب السياسية، فكان التنسيق مع الوفد ثم المشاركة فيما اشتهر ب"التحالف الإسلامي" مع حزبي العمل والأحرار ناهيك عن وجود كوادر إخوانية سياسية مسيسة مثل محمد مهدي عاكف والمستشار مأمون الهضيبي والدكتور عصام العريان وصلاح أبو إسماعيل قدمت أداءً قوياً نوعاً ما ويحمل الكثير من الذكاء تحت قبة البرلمان، وهو ما انعكس فيما بعد عبر حصول الجماعة علي17 مقعداً في برلمان2000 ثم88 مقعداً في البرلمان المنقضي، غير أن نواب الجماعة في هذين الدورتين (2005/2000) جسدوا في مجملهم (ربما باستثناء أسماء قليلة جداً منهم) مثالاً لنوعية نواب ضعيفة مهزوزة لا تجيد العمل السياسي بحنكة وعلي الجماعة أن تصنع لها سياسيين تحت القبة لا أن ترضي بأن يمثلها المشايخ. كذلك فإن المشاركة الإخوانية في البرلمان، وإن منحت عددا من كوادر الجماعة نوعاً من الخبرة السياسية وكذا التعبئة السياسية لها في الشارع لكن وعلي جانب آخر أيضاً – والكلام لا يزال لربيع - فإن الجماعة تخطئ بإصرارها علي أن العمل السياسي هو من يعبئ لها العمل الدعوي والاقتصادي مع أن العكس هو الصحيح. إضافة إلي أن الإخوان لديهم بعض الأمور التي تحمل نظرة متخلفة بعض الشئ وتثير مخاوف الناس ومنها مسألة حظر ترشيح المرأة والأقباط للرئاسة، معتبراً أن السبيل الوحيد أمام الإخوان للنضج السياسي هو اعتزال العمل السياسي لعقدين كاملين يكون التركيز فيهما علي مساري العمل الدعوي والاجتماعي الاقتصادي، ما من شأنه أن يحقق لهم التوازن والشعبية الحقيقية في الشارع والتي إن تحققت ستتمكن الجماعة من تحقيق مكاسب سياسية فعلية. الخسارة الكبيرة للإخوان في الانتخابات البرلمانية كشفت عن ضعف حاد في رؤية وتقييم الحقائق لدي قادة الجماعة وصقورها الحاكمة وفي مقدمتهم المرشد الحالي الدكتور محمد بديع، فالتحديات التي سبقت العملية الانتخابية كانت تؤكد حتمية فشل الإخوان أية مكاسب تذكر، الأمر الذي أوضحه تقرير لمعهد كارنيجي للسلام بواشنطن نصاً بقوله: "إذا ما قورنت بوضعيتها في انتخابات 2005 البرلمانية، تبدو وضعية جماعة الإخوان المسلمين اليوم وقبل أسابيع قليلة من انتخابات 2010 ملتبسة ومأزومة" قبل أن يبرز التقرير تعجب الكثيرين في مصر إزاء تمسك الجماعة بالمشاركة في انتخابات 2010 ورغبتها في الحفاظ علي درجة من التمثيل البرلماني، علي الرغم من الحصاد الهزيل لعملها في مجلس شعب 2005-2010 ومع القيود الكثيرة المفروضة علي مشاركتها الانتخابية والضربات التي تتعرض لها. ويمضي التقرير في تأكيده ضعف الإخوان سياسياً بقوله إنه "في 2005 دفعت الجماعة بأكثر من 150مرشحا للسباق الانتخابي في سياق سياسي اتسم بحراك غير مسبوق.. وفي لحظة توافق داخلي بين قيادات الجماعة وأطرها التنظيمية علي تفضيل المشاركة، رتب رفع مستواها إلي حدود المنافسة غير المسبوقة علي أكثر من ثلث مقاعد مجلس الشعب المنتخبة (444 مقعدا في 2005) كما عولت الجماعة في حملات مرشحيها الانتخابيَّة علي شعار الإسلام هو الحل، ولم يكن حظر النشاط السياسي المستند إلي مرجعية دينية قد مرر دستورياً آنذاك، شأنه في ذلك شأن الحظر القانوني لاستخدام الشعارات الدينية في الانتخابات الذي نص عليه في القانون رقم18 لعام 2007 واعتمدت علي الحضور المجتمعي القوي للعديد من مرشَّحيها في دوائرهم الانتخابيَّة وعلي التصويت الاحتجاجي ضدّ مرشحي الحزب الوطني للفوز بما يقرب من خمسة مقاعد مجلس الشعب (88 مقعدًا) للمرة الأولي في تاريخ مشاركاتها في الانتخابات البرلمانية". وجميعها أسباب انتفت تماماً قبل انتخابات 2010 ومع ذلك أصرت الجماعة علي المشاركة فكانت الخسارة المؤلمة. ويكمل التقرير: "بيد أن التغير الأخطر في حالة جماعة الإخوان يتعلق بالتراجع الحاد لتوافقها الداخلي، سواء بين قياداتها ورموزها أو بين أطرها التنظيمية " ما أدي لاشتعال الجدل الداخلي الإخواني والذي "تمثل في تشكيل جبهة داخلية تدعو لمقاطعة الانتخابات أطلقوا علي أنفسهم مسمي إخوان مسلمون إصلاحيون وجاهروا في بيان علني برفضهم قرار المشاركة في الانتخابات وتوافقهم مع الأحزاب والحركات التي دعتْ للمقاطعة".. والأخطر في هذا البيان (وفق التقرير) نظرًا أن رموز المعارضة الإخوانية الداخلية طالبوا الجماعة بالفصل بين الدعوة والعمل السياسي وتكوين حزب سياسي شرعي . مضيفاً بأن الجماعة حاولت "أن تحفظ ما تبقي لها من ماء الوجه بعد نتائج الجولة الأولي فأعلنت مقاطعة انتخابات جولة الإعادة، مما أدي إلي تعزيز رؤية الإصلاحيين التي كانت تري عدم المشاركة من البداية".. وفي ضوء الانتكاسات الانتخابية والسياسية المتكررة للإخوان (داخل التنظيم وخارجه) فإن الحديث عن مستقبل الجماعة علي الأقل خلال السنوات العشر المقبلة وبالتحديد حتي عام 2020 -بحسب أطروحة بحثية للمتخصص في شئون الحركات الإسلامية، خليل العناني، بعنوان "اللعبة الصعبة للإخوان المسلمين"- (يظل مرهوناً بقدرة الجماعة علي تطوير خطابها السياسي كي يصبح أكثر انفتاحا وديمقراطية.. وهو ما يعني أن تعيد الجماعة النظر في برنامجها الحزبي وتغيير العديد من النقاط التي أثارت ردود فعل غاضبة.. (يجزم العناني في هذه النقطة بالذات بأن الجماعة لن تكون قادرة علي ذلك بسبب ضعف التيار الإصلاحي داخلها وعدم قدرته علي فرض رؤيته علي تيار المحافظين الذين يهيمنون علي التنظيم بشكل كبير)..كما أن المستقبل السياسي للإخوان لن ينصلح من دون إعادة النظر في الهيكل التنظيمي للجماعة.. وهو ما لن يتم دون تغيير اللائحة التنظيمية الحالية التي تثير العديد من الخلافات حول صلاحيات وسلطات مجلس الشوري العام ومكتب الإرشاد.. فضلاً عن ضرورة إتاحة الفرصة للجيل الإصلاحي من شباب الإخوان بالحصول علي مراكز تنظيمية داخل الجماعة بما يتيح تجديد الدماء وطرح أفكار جديدة وجريئة.. فالفجوة الآن كبيرة بين الشباب والشيوخ داخل الجماعة وهي تزداد اتساعا.. ولربما تشهد الجماعة خلال السنوات العشر المقبلة انشقاقات وانفصالات بسبب عدم قدرة الشيوخ علي استيعاب جيل الشباب. العناني يطالب الجماعة أيضاً بأن تحسم موقفها من مسألة الحزب السياسي.. لكنه وفي الوقت ذاته لا يعتقد أنها تمتلك حالياً الاستعداد الكافي كي تعلن قيام حزب سياسي ليس فقط بسبب سوء الأوضاع السياسية، وإنما بالأساس بسبب عدم حسمها للأمر داخليا.. فهناك شريحة كبيرة من أعضاء الجماعة لا يؤمنون بمسألة الحزب ويرون أنها مسألة فرعية حيث يرون أن الجماعة يجب أن تظل جماعة دينية دعوية وليست حزبا سياسيا، وهو ما يعني بقاء الخلط دائما بين الوظيفتين السياسية والدعوية داخل الإخوان، كما أن الجماعة مطالبة أيضاً بحسم موقفها من العلاقة بين الوطنية والأممية، فالجماعة لا تزال حتي الآن تائهة بين أن تصبح جماعة وطنية مصرية ليس لها أجندة دولية أو أممية، وبين أن تظل حركة دينية لديها أهداف عالمية، وإذا كان لا مانع من أن يكون للجماعة مواقف دولية مؤيدة للبلدان الإسلامية وحركات المقاومة، إلا أن ذلك لا يجب أن يأتي علي حساب المصالح الوطنية المصرية، وقد وقعت الجماعة في أخطاء عديدة في هذا الصدد علي مدار الأعوام الثلاثة الماضية. يأتي هذا فيما يتحتم، أن يحسم موقف الجماعة حتي ولو كان بالدمج في الحياة السياسية شأنها في ذلك شأن أي قوة سياسية أخري، وأن يحدث انفتاح في الحياة السياسية في مصر بوجه عام باتجاه الديمقراطية والتعددية التنافسية الحقيقية ما يتيح للإخوان العمل بحرية أكبر وبالتالي محاولة تطوير خطابهم ورؤيتهم السياسية باتجاه الديمقراطية، وإن ظل ذلك مرهوناً أيضاً بأن تعيد الجماعة صياغة علاقتها بالنظام بحيث لا تصبح علاقة ندية أو صفرية وإنما علاقة سياسية تقوم علي احترام المنافس وعدم تهديده أو إحراجه إقليميا ودوليا علي غرار ما كان يحدث مؤخراً، وأن تنجح الجماعة في تحسين علاقتها بالقوي السياسية والمجتمعية الأخري، ذلك أن أحد الأمراض المزمنة في جماعة الإخوان هو عدم قدرتها علي بناء تحالفات سياسية دائمة. قبل أن يختتم العناني أطروحته بعدم اعتقاده أن تشهد جماعة الإخوان طفرة نوعية خلال السنوات العشر المقبلة، سواء علي مستوي خطابها السياسي والديني أو علي مستوي المشاركة والتأثير السياسية، وسيظل ما حدث عام2005 مجرد ذكري في تاريخ الإخوان، قد لا تتكرر حتي عام 2020 علي حد تأكيده.