يبدو الدور قد وقع هذه المرة على “,”تأديب“,” المجتمع المدني وجمعياته الأهلية، يحدد “,”الخبثاء“,” بداياته حين أكد الرئيس مرسي عقب انتخابه، على استقرار القضاء وحرية الإعلام وتعزيز المجتمع المدني. والأمر هنا يتعلق بمشروع قانون جديد للجمعيات الأهلية، تقدمت به وزارة الشئون الاجتماعية، ودعت وزارة العدل إلى حوار مجتمعي حوله، للإيهام بأن هناك مشاورات جادة تجرى بشأنه، في الوقت الذي قدمت فيه “,”56“,” منظمة حقوقية مشروعًا باسمها لم يؤخذ به، وآخر قدمه حزب الحرية والعدالة في العام الماضي، قبل انتخاب الرئيس مرسي، وتم صرف النظر عنه بعدها. ولكن.. لماذا الإلحاح على إصدار هذا القانون؟ لكي يوقف استمرار هدير الحركة التطوعية، والفعاليات الشبابية، ولجان الدفاع عن المتظاهرين والمتضررين، والمجموعات العاملة ضد التحرش، ومنظمات حقوق الإنسان، تلك التي وجدت في ثورة يناير 2011 منطلقًا لكشوفاتها، فكان لابد من إيقافها، وبالقانون، عند حدها، ناهينا عن تحفظ المشروع الجديد على عقد اجتماعات عامة لهذه التجمعات كالمؤتمرات والندوات، دون تصريح مسبق من الجهات الأمنية. ويشار هنا أن البدايات الأولى لهذه الجمعيات، تقترن بحركة النهضة المصرية منذ مطلع القرن التاسع عشر، بتأثير حركة الإصلاح المؤسسي التي شهدتها مصر، ووقع الصدمة مع الغرب، ووضع التقابل معه كمعادل للمقارنة بين التأخر والتمدن، وعبر مناخ فكر إصلاحي انتشر بصور وأشكال مختلفة، وتمثلت في مؤسسات جديدة شملت مجالات عديدة، أحلت النقابة محل الطائفة، والمدرسة بجانب الأسرة، والقانون بدل العرف، ما ساهم في تفكيك التكوينات الاجتماعية التقليدية، واستبدلتها بإنشاء جمعيات أهلية، دعا لها رفاعة الطهطاوي وتلميذه ميخائيل “,”أفندي“,” عبدالسيد، ورادها عبدالله النديم والكواكبي ومصطفى كامل ومحمد فريد، وكان من ثمارها مستشفى المواساة في الإسكندرية، ومستشفيات ومدارس الجمعيات الخيرية، بل إن جامعة القاهرة كانت من بين هذه الأعمال، والنادي الأهلي نتاج جهود جمعية خريجي المدارس العليا. ومع قيام ثورة يوليو 1952، تولت الحكومة تغطية الاحتياجات الضرورية للأفراد، مثل حق التعليم وحق الرعاية الصحية وحق العمل، مما كانت تتجه إليه الأنشطة الخيرية التطوعية، ولذلك حدث انحسار لها، وظهرت في الوقت نفسه أنشطة أخرى فكرية وثقافية، ومع الانفتاح وتداعياته، برزت الحاجة إلى منظمات حقوقية، تستهدف توعية المواطنين بحقوقهم، مثل جمعيات حقوق الإنسان ومراقبة الانتخابات ومؤسسات الدفاع عن الديمقراطية ومنظمات دعم الحريات. ويصل عدد المنظمات الأهلية غير الحكومية، في الوقت الحاضر، ما يقارب “,”26“,” ألف جمعية ومنظمة، تمارس أنشطة مختلفة في التعليم والثقافة والأعمال الخيرية والخدمية والتنموية والحقوقية، ويحكمها القانون الساري رقم “,”18“,” لسنة 2002، فيما يجسد مشروع القانون الجديد لهذه الجمعيات، عداء حكومة الإخوان لها، رغم نشوء جماعة الإخوان المسلمين كجمعية تم حظرها، ويكشف محاولات السيطرة عليها بشتى الطرق، بواسطة قمع الحركة التطوعية، وتقنين الانتهاكات الأمنية مع تعدد جهات الرقابة، وفتح الباب واسعًا للسيطرة والإفساد، وعدم احترام التزامات مصر الدولية بمقتضى الاتفاقيات التي صدقت عليها، والمعايير الدولية الخاصة بحقوق المواطنين في تكوين الجمعيات والدفاع عن حقوق الإنسان. فالمشروع الجديد يعتمد مبدأ الإقصاء، سواء بفرض قيود على إنشاء وإشهار الجمعيات، أو تحديد مجالات بعينها للعمل الأهلي، واختزالها في المجالات الخيرية والتنموية دون الحقوقية، وذلك في تحد صارخ لحرية التنظيم المكفولة بموجب الدساتير والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى وضع المزيد من الهيمنة والحصار من جانب الجهة الإدارية ممثلة في وزارة الشئون الاجتماعية، على منظومة العمل الأهلي. ذلك أن هذا المشروع يتعامل مع المنظمات الحقوقية كأحزاب سياسية، فيحظر عليها التمويل الخارجي، أو القيام ببحوث ميدانية واستطلاعات رأي، ثم أنه رغم إقراره تأسيس الجمعيات بالإخطار، إلا إنه يقيد بموافقة الجهة الإدارية، بل ويعطيها حق حل الجمعية وإيقاف نشاطها، وليس حل مجلس إدارتها فحسب. ويشترط أن تخضع جميع المنظمات الأهلية لإشراف الاتحاد العام للجمعيات. الذي يعين رئيس الجمهورية “,”10“,” من أعضائه بمن فيهم رئيسه، ما يجعل هذا الاتحاد خاضعًا للحكومة، وليس هيئة منتخبة تدافع عن مصالح قاعدته العريضة، كذلك ينص المشروع على إنشاء لجنة تنسيقية، تضم ممثلين عن الجهة الإدارية وأجهزة الأمن الوطني والقومي، حال طلب إنشاء منظمات حقوقية، أو طلب تمويل لها يرى فيه أنه يمكن توظيفه سياسيًا، ما يعني تحويل الجمعيات الأهلية إلى دواوين إدارية تراقب الأجهزة الأمنية أنشطتها، تلك التي منحها هذا المشروع دورًا رسميًا لأول مرة في تاريخ الجمعيات الأهلية في مصر، ناهينا عن صوغه شروطًا تعجيزية حول إنشاء هذه الجمعيات، حين اشترط إيجاد مقر ملائم، واحترام النظام العام والسيادة الوطنية، وتوافر تمويل لا يقل عن “,”250“,” ألف جنيه لبدء نشاطها، بعد أن كان القانون الحالي يشترط “,”10“,” آلاف جنيه، مع إعطاء صفة الضبطية القضائية لموظفي الجهة الإدارية، وهو ما يضيِّق من العمل الأهلي، ويحوِّل هؤلاء الموظفين إلى مخبرين لدى الجهات الأمنية. واللافت في هذا الصدد، أن المشروع الجديد قد أعطى لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة فرصة تسوية أوضاعها، بل وتأكيد مشروعية أنشطتها التجارية، وهو ما يهدم فكرة المشاركة الطوعية، ويُعظّم من تحقيق الربح، المخالف للهدف من الجمعيات الأهلية، كمنظمات غير هادفة للربح. والآن.. وبعد القضاء والإعلام والمجتمع المدني.. على مَن يا ترى سوف يحل الدور القادم؟