كشفت الأزمة السياسية السورية عن دور جديد للدبلوماسية الروسية يهدف إلى إعادة تشكيل هيكل وموازين القوى في العالم بما يسمح بتشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب من جديد ويضع حدا لنهاية القوة الوحيدة المنفردة بمقاليد إدارة الأمور في العالم أجمع، إذ كشفت الأحداث الأخيرة على الساحة الدولية، عن بداية نهاية انفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بالقرار الدولي وبداية تشكل نظام دولي متعدد الأقطاب. وثمة عدة مؤشرات على صعود الدور الروسي تدريجياً وتراجع وأفول وتردد الدور الأمريكي, أول هذه المؤشرات: معارضة روسيا صدور أي قرار من مجلس الأمن يدين ممارسات النظام السوري ضد المعارضة، وشكلت هي والصين معوقين رئيسيين في هذا الاتجاه، وطالبت بضرورة الحوار والحل السياسي بدلاً من أي حلول عسكرية. ففي الوقت الذي بدت فيه واشنطن مترددة في اتخاذ القرار رغم تهديدها بشن الحرب على سورية بدت موسكو نشطة وقوية ومصرة على استعادة دور الاتحاد السوفيتي القديم كقطب فاعل ومؤثر في الساحة الدولية، فاستطاعت إعادة النظام السوري كعضو معاون مع الأممالمتحدة في نزع السلاح الكيمائي بعد انضمام سوريا رسمياً إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، وشكل هذا القرار نقطة الانطلاق لاتفاق روسياوالولاياتالمتحدة حول الخطوات المشتركة التي ستتخذ للتعامل مع السلاح الكيميائي في سوريا. ثاني المؤشرات على الصعود الروسي وأفول النجم الأمريكي: القدرة الروسية على منع إدانة أو فرض عقوبات ضد مصر عقب ثورة 30 يونيو واستعدادها تقديم أي مساعدات اقتصادية أو عسكرية في حال محاولة الغرب فرض عقوبات على النظام الجديد فيها ، بالإضافة إلى رفض موسكو السماح لواشنطن بتوجيه أي ضربة تجاه إيران أو حيال كوريا الشمالية فضلاً عن منح اللجوء السياسي للعميل الأمريكي سنودن على الرغم من احتجاج واشنطن ومطالبتها بتسليمه لخرقه قوانين السرية التي أحرجت أمريكا حتى مع حلفائها. ثالث هذه المؤشرات على صعود الدور الروسي، تمثل في سعي روسيا إلى استعادة مكانتها ووجودها على الساحة الدولية كقوة كبرى “,”مناكفة“,” لأمريكا في حكمها للعالم ، حيث تمكن قادة الكرملين من استعادة مكانة روسيا وبناء تحالفات مكنت القيادة الروسية من إعادة رسم خريطة العالم من جديد عبر تحالفات تمثلت في منظمة شنغهاي للدفاع والتعاون المشترك ومجموعة دول البريكس التي تضم في صفوفها غالبية سكان العالم والتحكم باقتصادياته ، هاتان المجموعتان تقفان اليوم في وجه التوسع الأمريكي والتحكم والتفرد الأمريكي في حكم العالم. وثمة عوامل ساعدت وحفزت هذا الصعود الروسي، منها: التطورات السريعة والمتلاحقة على صعيد الأزمة السورية، والركود الذي يشهده الاقتصاد الأمريكي وما عانته القوات الأمريكية من أعباء في العراق وأفغانستان وتحركات الأسطول والسفن الروسية إلى مناطق لم تصلها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق ، كل هذا يجعل العالم متاحاً لنظام عالمي جديد تكون فيه روسيا لاعباً أساسياً في المنطقة. فلم تعد موسكو اليوم مجرد عاصمة كبرى، أو إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بل أصبحت عاصمة روسيا الاتحادية التي استطاعت أن تنافس واشنطن على مقعد رئاسة مجلس إدارة العالم. ولم يمثل هذا الاتفاق الملاذ الآمن للدبلوماسية الأمريكية وفقط، وإنما كان أحد الحلقات المهمة في الدبلوماسية الروسية والدافع المحوري لدور جديد لها في الشرق الأوسط ، فبعد هذا الاتفاق صرحت روسيا بأن السلاح الكيمائي السوري هو عمل استفزازي من قبل المعارضة ، ثم لوحت بعد ذلك بوضع جدول زمني يصل لمدة عام وتكلفة مادية كبيرة أمام تنفيذ الاتفاق الموقع بينهما. وقد كشف التراجع الأمريكي عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا ، عن التحول الدراماتيكي على صعيد الأزمة التي وصلت إلى حافة الهاوية في لحظة من اللحظات التاريخية الأمريكية ، إذ مثلت المبادرة الروسية لحل الأزمة السورية بعيداً عن الخيار العسكري، طوق النجاة للسياسة الأمريكية وقد تمت ترجمة ذلك الأمر في اتفاق جنيف الكيميائي الذي تم بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الأمريكي جون كيري. وفي هذا الإطار يرى محللون أن روسيا سلخت ثوبها الأيدلوجي وأبقت على مبدأ المصالح التي تخدم كل الجهات ، وبالتالي إذا كانت الأزمة السورية تأتي في قلب الحدث، فإن الدول العربية تستطيع أن تكون جزءاً من الحل، وتبقى روسيا معادلاً موضوعياً لإدارة حوارات تتجه نحو المصارحة، ولديها هذه القابلية، لأن الغرب وسياساته ليست ثابتة والمصلحة الوطنية العربية تستدعي أن لا تكون جزءاً من صراعات دولية على حساب الوجود العربي ، وبالتالي فإن روسيا صعدت لأن تكون مركز قوة لا مجرد هامش اقتصادي وصوت سياسي. ميلاد نظام دولي متعدد الأقطاب : وتأسيساً على ما سبق، فإن هذه المؤشرات تُشي بتحولات استراتيجية قوية تؤسس لميلاد واقع جديد للعلاقات الدولية والنظام العالمي المعاصر، يكون فيه تعدد للأقطاب والقوى الدولية، وقد تجسد ذلك في الكيفية التي نجح فيها الرئيس الروسي بوتين بسحب البساط من الولاياتالمتحدةالأمريكية ، اللاعب الأهم والأكثر تأثيرا على المسرح الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، وبدا هذا واضحاً من خلال مواقف بوتين روسيا الذي يقودها للعودة إلى المسرح الدولي بقوة مناوئة ومخيفة ومقلقة للغرب، بأجندتها ومصالحها ، وساعية لإنهاك الولاياتالمتحدةالأمريكية أكثر في مسارح عمليات خارج مناطق نفوذ روسيا الاتحادية في القوقاز وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، إلى درجة أن روسيا أرسلت مدمراتها وسفنها الحربية للمتوسط وتهدد بتسليح النظام السوري بأنظمة صاروخية دفاعية متطورة، بالإضافة إلى تسليح إيران ، الذي يهدد أمن حليفتها الاستراتيجي إسرائيل، فضلاً عن قدرتها على تأمينها للغطاء والحماية ضد أي ضربة محتملة من الغرب وحلفائها للنظام السوري. أ ش أ