كنت أتحدث مع أحد الدبلوماسيين المخضرمين فقلت له: ألا ترى أننا نعيش ما يشبه حركه الكثبان السياسية المتحركة؟ إلا فلاحظت في عينيه مفاجأة المصطلح ( الكثبان السياسية المتحركة).. كما شعرت من ثنايا كلامه بالاتفاق على عمق المعنى والدلالات الخفية التي يحملها. فلا أحد يستطيع - مهما كانت خبراته وبراعته وموقعه – أن يقول إلى أين نحن ذاهبون.. ولا كيف سينتهي المشهد الحالي.. ومتى ستتوقف حركة الكثبان السياسية السريعة والخطيرة معاً؟ ولعلنا هنا نعرض محاور أساسية.. دولية وإقليمية.. فقد تابعنا تطورات الأزمة السورية الأخيرة التي كادت أن تصل إلى حافة الهاوية والمواجهة شبه العسكرية بين واشنطن وسوريا. وقبل أن نفيض في تفاصيل هذا المشهد.. يجب أن ندرك أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتى الأمس.. رغم أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الذى خرج من أحضان الدب السوفييتى وتخرج من عباءته.. إلا أنه يدرك تماماً مدى التغييرات التى طرأت على الساحه الدولية.. فى روسيا لن تعود مثل الاتحاد السوفييتى.. وهو لن يكون جورباتشوف أو ستالين أو حتى لينين!! لماذا .. لأن العالم قد تغير.. وهو أيضاً.. وروسيا ذاتها أصابها من العالم الخارجي الكثير من التبديل والتعديل والتحوير.. فأصبحت الشخصية الروسية تناغى الغرب.. سلوكا وممارسة.. بل وفكراً أيضاً. والزاوية الأخيرة تحتاج إلى بعض الإيضاح.. فلم تعد هناك اختلافات إيديولوجية جوهرية بين روسيا والغرب عموما.. وروسياوالولاياتالمتحدة خصوصاً.. بل لا نبالغ إذا قلنا إن القطبين قد عادوا إلى ذات الجذور الحضارية والايديولوجية.. رغم كل مظاهر المواجهة والتوتر والصدام المصنوع.. والمحكوم أيضاً!!. ومن المؤكد أن القيادة الروسية الحالية تدرك أن هناك"فوارق" بين الاتحاد السوفييتي زمان.. وروسيا الآن.. إيديولوجيا وسياسياً وجغرافياً واقتصادياً وتكتيكياً أيضاً ونحن لسنا فى معرض الإفاضة فى شرح هذه التباينات والاختلافات الجوهرية.. ولكن هناك عاملاً شخصياً يمس الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الذى نجح بكاريزمته وخبراته وبراعته فى السيطره على مسار السياسة الروسية على مدى السنوات الماضية.. وحتى نهاية ولايته الحالية.. على أقل تقدير. فهذا الرجل يتمتع بذكاء ثاقب ورؤية استراتيجية متكاملة.. وبراعة تكتيكية واضحة.. مثل لاعبى الشطرنج الروس الذين يسيطرون على هذه البطولات منذ عقود طويلة! بمعنى آخر.. فإن مهارات بوتين انعكست بشكل واضح على التوجه السياسى الروسى وعلى صناعة القرار الروسى داخلياً وخارجياً. ولعل أبرز الدلائل على ذلك كيفية إدارته للأزمة السورية خلال الأسابيع الماضية ببراعة فائقة.. والوصول بالحركة السياسية والعسكرية والدبلوماسية إلى الهدف الذى يريده بوتين وليس أوباما فقد بدا للجميع أن الغرب والولاياتالمتحدة تحديداً يصران على ضرب بشار الأسد ومعاقبته لاستخدام السلاح الكيماوى ضد شعبه.. وتحركت الأساطيل وتأهبت وكادت الطلقة أو الضربه الأولى تنطلق.. دون أن يدرى أحد كيف سينتهى؟! ولكن روسيا بوتين نجحت فى إدارة الأزمه ببراعه.. فعلى المستوى العسكرى تحركت الأساطيل الروسية لأول مرة أمام السواحل السورية.. فى إشارة واضحة إلى استعداد روسيا للدفاع عن نظام بشار.. وهو ما لم يكن يحدث فى مواجهات سابقة(سوفيتية أمريكية). بل كانت موسكو تتراجع غالباً فى آخر لحظة!! ورغم أن روسيا لم تكن تود اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية ضد الولاياتالمتحدة.. إلا أنها استغلت تحركاتها العسكرية فى المتوسط للضغط على الموقف الأمريكى تحديداً. وفى ذات الوقت تحركت روسيا دبلوماسياً على مستويات عدة.. فى مجلس الأمن ومع التنين الصينى ومع إيران حليفة سوريا على الأرض.. وطرحت مبادرة نزع السلاح الكيماوى من سوريا. وقبلت كل الأطراف هذا المشروع الروسى.. والخلاصة أن بوتين نجح فى تحقيق عدة إنتصارات لروسيا ونظام بشار بل.. ولإيران أيضاً. - فقد أكد بدء عوده النفوذ الروسى على الساحة الدولية وقدرة موسكو على تحقيق انتصار على القوة الأولى عالمياً (الولاياتالمتحدة) وأعتقد أن هذا لم يحدث منذ سنوات طويلة. - إلغاء أو تأجيل الضربة الغربيةالأمريكية لنظام الأسد إعطاؤه قبلة الحياة والقدرة على إعادة تنظيم أوضاعه المتهالكة.. وتوفيق حساباته الخاطئة.. وربما أصبح بشار الأسد ونظامه الآن أقوى من أى وقت مضى.. بهذا الدعم الأمريكى الروسى المشترك!! بل يمكن القول أن المقاومة السورية دخلت مرحلة خطيرة قد تؤدى إلى ضعفها كثيراً.. رغم كل أشكال الدعم السياسى والعسكرى الذى لن يغير المعادلات الجيواستراتيجية على الأرض. - عدم تحمل إيران أعباء المواجهة العسكرية التى كان يمكن أن تجلب الكثير من الخسائر السياسية والإقتصادية الفادحة.. خاصه أنها تعيش ظروفاً داخلية صعبه جداً. - إسرائيل هى الفائز الأكبر من كل هذه التطورات - فقد تم نزع (سلاح الفقراء) أو السلاح الكيماوى من يد الجيش السورى المزعزع أصلاً.. فأصبح جيشاً مهيض الجناح.. لا يهابه أحد.. وهذا هو المطلوب مع كل جيوش المنطقة.. عدا إسرائيل طبعاً. ** وإذا انتقلنا إلى المشهد الثانى من مشاهد الكثبان السياسية المتحركة.. فسوف نراه متداخلاً مع المشهد الأول ومرتبطاً ومتأثرا به.. ومؤثراً فيه أيضاً.. أنه مشهد العلاقات الإيرانيةالغربية أنه عامه.. والإيرانيةالأمريكية خاصة. ومره أخرى يجب أن نتعمق فى قراءه هذا المشهد وندرك أن الغرب لا يرى إيران عدواً له.. بل أن إسرائيل لا ترى إيران عدواً لها.. رغم كل ما يقال فى العلن للاستهلاك الإعلامى والدعائى فقط. وليست مفاجأة أن إسرائيل – كانت ومازالت وستظل تعتبر مصر عدوها الاستراتيجي الأول وليست إيران.. ويجب أن ندرك نحن فى مصر هذه الحقيقة الراسخة المؤكدة وألا نستخف بكل التطورات السريعة المتلاحقة التى تخطف العقول وتخيف بعض القلوب. والغرب يعتبر فترة الثورة الإيرانية على طولها ورسوخها وانتشارها فترة تكتيكية بمنطق التاريخ الإستراتيجي الفارسى القديم!! بمعنى آخر.. هناك ثورة إسلامية كبرى حدثت عام 1979 فى إيران.. وهناك واقع جيوسياسى وجيواستراتيجى نشأ فى إيران والمنطقة والعالم بشكل عام بعد هذه الثورة الكبرى.. ولكن المحللين الغربيين وأيضاً صناع القرار الغربى ومراكز البحوث الغربية تعتبرها فترة طارئة.. يمكن استيعابها بكل الطرق.. واستعادة الحليف الإيرانى القديم.. ولو بعد حين! وقد يرى البعض – خاصة فى إيران وحلفائها – فى هذا التحليل نوعاً من الشطط أو العبث.. ولكنه احتمال قائم وليس مستبعداً! وقد لا نعيش حتى نراه!! وعلى هذا الأساس يمكن تفسير تطورات العلاقات الغربيةالإيرانية.. صعوداً وهبوطاً.. انحساراً وانتشاراً!! والقيادة الإيرانية (الإسلامية) نجحت بامتياز فى استيعاب الميراث الطويل لهذه الأمه (الفارسية) العريقة ووظفت كل قدراتها وخبراتها المتراكمه فى مواجهة مختلف الصعاب والمخاطر والحصار والمقاطعة!! بل إن علماء وخبراء الدبلوماسيه سوف يدرسون فن الدبلوماسية الإيرانية فى معاهدهم وجامعاتهم!! وليس أدل على ذلك من قدرة إيران الفائقة عن الإفلات من كل الأزمات والمصائد التى صُنعت لها بمهارة فائقة!! بل لا نبالغ.. إنها ساعدت حلفاءها فى المنطقة خاصة سوريا وحزب الله على تجاوز أخطر أزماتهم.. ومنها إفلات بشار من الضربه الأمريكية المحتملة!وكان لإيران دوراً كبيراً فى هذا. يجب أن ندرك أيضاً أن المرشد العام يقوم بدور كبير فى تصعيد القيادات الإيرانية ( بما فى ذلك الرؤساء والوزراء وكافة المناصب القيادية الكبرى المؤثرة داخل إيران) قد كان أحمدى نجاد هو الرجل الأنسب للمرحلة السابقة.. كما أن روحاني هو الأكثر ملاءمة لهذه المرحلة.. تماماً مثل خاتمي الذى سبق نجاد. إنها عملية توزيع أدوار استراتيجية بارعة.. فى إطار نظام ايديولوجى وسياسى واستراتيجى واضح ومحدد فالكل يعرف قواعد اللعبه داخل إيران.. ويقبل بهما التزاماً بالمصالح الإيرانية الاستراتيجية. وياليتنا نتعلم من هؤلاء أن الأنظمة والأشخاص زائلون والأمم والشعوب هى الباقية. المهم أن تصعيد أو صعود روحانى لرئاسة إيران (وليس قمة السلطة) أمر مطلوب لتلبية متطلبات هذه المرحلة إقليمياً ودولياً.. قبل الساحه الداخلية الإيرانية. وعندما يلتقى قادة الغرب مع روحانى ويرحبون بتصريحاته فإننا ندرك التحليل السابق بأن العلاقه الغربيةالإيرانية ممتدة على المستوى الاستراتيجى التاريخى بعيد المدى.. رغم كل المواجهات اللفظية والحديث عن الشيطان الأكبر أو محور الشر.. فالسياسة فن السفالة الأنيقة تستوعب كل شىء ولا تمانع ولا تمنع كل المحرمات والموبقات للأسف الشديد!.