تصور الفتحات التي أحدثتها القذائف في جدران المباني والدبابات المحترقة والركام الذي لا تبدو له نهاية، ويشوّه حي دار سعد في شمال مدينة عدن مدى عنف الحرب الأهلية اليمنية، وتشير إلى التحديات التي تواجه المدن الأخرى التي لحق بها الدمار. وحتى قبل أن يبدأ سقوط القذائف في الأراضي اليمنية في أوائل العام الحالي كان اليمن من أفقر الدول العربية، وكان اليمنيون يعانون من سوء التغذية والأمية وضعف الرعاية الطبية والبطالة وسوء حال البنية التحتية، والآن أصبح اليمن يواجه أزمة حادة بعد شهور من الحرب التي حولت مناطق كثيرة من مدينتي عدن وتعز الجنوبيتين إلى أنقاض جراء القصف واشتباكات الشوارع وما لحق في مدينة صعدة الشمالية من دمار جراء غارات طائرات التحالف وما حاق بالكثير من المناطق الأخرى من خراب واسع. وقالت بتينا لوشر المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي في جنيف "اليمن من أكثر الأماكن بؤسًا"، ومازالت المعارك مستمرة في كثير من أنحاء اليمن بين قوات تدعمها دول خليجية في جانب ومقاتلون شماليون تابعون للحوثي وقوات موالية للرئيس السابق على عبدالله صالح في جانب آخر، لكن أغلب الاشتباكات توقفت في عدن في يوليو الماضي وبدأت الجهود لاستئناف الخدمات الأساسية. وقامت رويترز بجولة في المدينة في زيارة نظمها الجيش السعودي أتاحت الاطلاع على مدى الدمار بعد أسابيع من انتهاء اشتباكات ضارية في الشوارع استمرت أربعة أشهر. وشهد حي دار سعد من القتال ما يفوق ما شهدته أغلب الأحياء الأخرى في المدينة بسبب موقعه على طريق رئيسي يؤدي إلى الشمال، ومع ذلك فقد أوضح مشهد ذهاب النساء والأطفال ومجيئهم في أحد الأزقة أن الحياة بدأت تعود للمنطقة. وداخل مستشفى الجمهورية أحد أكبر مستشفيات عدن والذي أصبح خاليًا الآن بعد أن انقطعت عنه الكهرباء وأصابت القذائف الطابق الأول فيه بأضرار جسيمة بدأ بعض العمال هذا الأسبوع إعادة طلاء عنبر بينما كان مهندسون يقيّمون حجم الأعمال المطلوبة لإعادة فتح المستشفى. وتتولى دول خليجية بدأت قواتها المسلحة حملة عسكرية في مارس الماضي لإعادة الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى السلطة تمويل الأعمال اللازمة في المستشفيات ومحطات الكهرباء والمدارس واستئناف بعض مهام الشرطة. وفي مطار عدن يتوالى هبوط طائرات النقل من طراز سي 130 جالبة إمدادات إغاثة من دول الخليج، أما في المناطق التي تخضع لسيطرة الحوثيين فتقصف الطائرات الحربية الخليجية الأهداف المعادية ويقول سكان محليون إنها تصيب في كثير من الأحيان المدنيين أيضًا وهو ما ينفيه التحالف. خطوة واحدة من المجاعة.. تقول الأممالمتحدة إن 5428 يمنيًّا على الأقل سقطوا قتلى في الحرب الأهلية منذ بدأت طائرات التحالف غاراتها في 26 مارس، غير أنه بخلاف الخسائر البشرية المباشرة من الحرب فمن المحتمل أن يكون كثيرون آخرون قد لقوا حتفهم من جراء نقص الغذاء والدواء والمأوى، وخارج ميناء عدن أكبر موانئ البلاد أمكن مشاهدة سفن حاويات وناقلات تنتظر دورها للرسو. لكن الأممالمتحدة تقول إن حصارًا بحريًّا يفرضه التحالف والعجز عن توزيع المساعدات التي تصل أدى إلى تفاقم الأزمة. وقال لوشر "عشر محافظات من بين 22 محافظة في اليمن مصنفة على أنها تواجه عجزًا في الأمن الغذائي على مستوى الأزمة وهذا أقل درجة واحدة فقط من المجاعة"، وبالقرب من الميناء على الطريق المؤدي لشبه جزيرة عدن تخبطت سيارة أجرة ميني باص عتيقة بأبواب مفتوحة وشريط أصفر على جانبها الأبيض بينما كان سرب من طيور البشروش يقف في مياه الخليج الفيروزية، وعلى الجانب الآخر من الطريق وقفت سيارة محترقة عن آخرها. وراح السائق يتفحص شبكة الشروخ الممتدة من فتحتين أحدثتهما رصاصتان في الزجاج الأمامي وهو ينقل امرأة وطفلها باتجاه ساحل أبين، حيث تجمع عدد كبير من الناس لقضاء عطلة العيد والاستمتاع بالشمس الذهبية ونسيم البحر الدافئ. وعلى الرمال انطلقت فتاتان محجبتان بدراجة رباعية متجاوزتين مجموعة من نحو عشرة صبيان يلعبون بكرة قدم برتقالية اللون تكرر سقوطها في المياه، إلا أن المقاهي التي كان الناس يستريحون فيها قبل بضعة أشهر على الكورنيش في الخلفية أصبحت الآن مهشمة وآثار طلقات النار على جوانبها الخرسانية بينما كانت الأطر المعدنية لنوافذها ملتوية من جراء الانفجارات. مدينة أشباح.. عندما عاد خالد البحاح نائب الرئيس اليمني إلى عدن من المنفى في الرياض بعد طرد المقاتلين الحوثيين وقوات صالح من المدينة المطلة على المحيط الهندي على أيدي مقاتلين مدعومين من دول خليجية كانت عدن أشبه في مدينة أشباح.. ولم يبدأ السكان العودة إليها بعد. وقال البحاح إن نصف أحياء المدينة كانت خالية بالكام، ولم يكن بها أحد لأن الحوثيين كانوا فيها من قبل.. وأضاف أنه لم يكن بها ماء أو كهرباء. وعلى الطريق الرئيسي في حي المعلا وقفت بضعة مبان سكنية عالية دون أن تمسها طلقات الرصاص أو التفجيرات بينما كانت بركة كبيرة من مخلفات الصرف الصحي الداكنة تغطي جزءًا من الطريق، وقال البحاح للصحفيين في فندق القصر في عدن إن الحياة بدأت تعود من جديد. وتعمل حكومة هادي انطلاقًا من الفندق منذ عودتها التدريجية من المنفى في الرياض في الأسابيع الأخيرة. وفي كل مكان في الخارج كانت مجموعات كبيرة من الأطفال تلعب في الشوارع وتتجمع عند النواصي، حيث انتصبت موائد البلياردو والميني فوتبول كما كانوا يقفون أمام متاجر البقالة لشراء الحلوى. وفي أحد الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية، حيث أظهر منزلان خربتهما القذائف أين كان الحوثيون يقيمون قاعدتهم خلال القتال وقف محمد سليم أبوالجيد على قارعة الطريق يبيع البطاطا المقلية وبناته الثلاث تقفن على مقربة منه، وقال "كل الناس رحلت هنا عندما جاء الحوثيون، وبعد رمضان رجعنا، الوضع الآن معقول جدًا"، وخلفه بدت كومة من القمامة تصاعدت منها روائح تزكم الأنوف وفي غياب الشرطة كانت مجموعة من الرجال المسلحين تتسكع على الناصية المقابلة.