فرض الجدل السائد والمناقشات المستمرة بالصحف ووسائل الإعلام حول قانون الخدمة المدنية الجديد كخطوة كبيرة نحو إصلاح الجهاز الإداري للدولة، نفسه على مبدعين مصريين الذين قدموا معالجات إبداعية لهموم وقضايا الموظفين بقدر ما تتبدى أفكار فلسفية بين ثنايا هذه المعالجات مثل "فكرة الزمن". وفي مجموعته القصصية "في الوظيفة" التي صدرت لأول مرة في شهر ديسمبر عام 1944، تناول الكاتب الراحل عبد الحميد جودة السحار في مجموعة قصص العديد من هموم الموظفين ضمن ألوان الحياة المصرية. وعبد الحميد جودة السحار الذي ولد في القاهرة عام 1913 وقضى في مطلع عام 1974 حصل على بكالوريوس التجارة من جامعة القاهرة انخرط في السلك الوظيفي الحكومي وتقلد عدة وظائف، حتى ارتقى لمنصب رئيس هيئة السينما. ومن الطريف أن السحار تطرق في مجموعته القصصية "في الوظيفة" لمسألة التقارير الوظيفية التي يكتبها الرؤساء عن مرؤوسيهم في دولاب العمل الحكومي، فإذا به يقول على لسان إحدى شخصيات هذه المجموعة القصصية: "الحقيقة لا تعرف طريق هذه التقارير، إنها مسألة استلطاف"! والزمن حاضر بقوة في المجموعة القصصية لعبد الحميد السحار التي تتناول هموم الموظفين ومفارقات الحياة الوظيفية، حيث تكر الأيام تعقبها الشهور واللجان في جلسات لا تنتهي، وترادفت الشهور وانقضت سنوات دون أن تتغير أحوال بعض من تعرضوا لمظالم وظيفية. وبمعالجة ساخرة يرصد عبد الحميد جودة السحار بعض مشاعر وآراء الموظفين في دواوين العمل الحكومي حينئذ ليقول عن أحدهم: "كان يبذل مجهودا لإنجاز عمله كما ينبغي يوم أن كان يحسب أنه بعمله يستطيع أن يترقى ولكنه بمرور الزمن وبما رأى وسمع علم أن العمل هو آخر مؤهل للترقي"! يضيف السحار في سياق تناوله للحياة الوظيفية لهذا الشخص الذي يدعى "فهمي" ليقول: "ولذلك فكر في وسيلة يزحلق بها عمله على غيره فهداه تفكيره إلى كتابة صيغة رد تصلح لجميع المكاتبات وأن اختلف الموضوع والمطلوب"، وهذه الصيغة هي: "حضرة المحترم: مرسل لحضرتك جميع الأوراق الخاصة بالموضوع عاليه: رجاء التكرم باتخاذ اللازم، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام". يواصل عبد الحميد جودة السحار قصته الطريفة قائلا: "وقد مكنته هذه الصيغة من إنجاز عمله في بضع دقائق، فما كان عليه إلا إرفاق هذه الصورة بالمكاتبات المختلفة بغير تبيين الموضوع وبذلك أصبح وقت فهمي فراغا كله"!. وما كان لعبد الحميد جودة السحار أن يغفل تناول شخصية الموظف المستفيد من كل العهود رغم أنه يلعن كل عهد لحظة أن ينقضي ويسب هؤلاء الذين أحسنوا إليه بمجرد خروجهم من مناصبهم الكبيرة، فيما يورد السحار تفسيرا طريفا على لسان أحد الموظفين بشأن تلك الشخصية عندما يقول: "أنه يستحق، هذه عبقرية ولا شك، يعيش في كل عهد وينال رضا الجميع". ويقول آخر: "على كل لون كصبغة الثياب"، بينما يقول موظف ثالث: "أنه كحرباء له القدرة على أن يتلون بلون المحيط الذي يعيش فيه، سيعيش دوما ولن تدول دولته أبدا". وسعى عبد الحميد جودة السحار في مجموعته القصصية "في الوظيفة" لتفسير بعض أسباب نفور الموظفين من العمل وبغضهم لمكان عملهم "فما كانوا يحبون عملهم ولولا مسيس الحاجة إلى تلك الدريهمات التي يتقاضونها ليسدوا بها رمقهم ما دلفوا أبدا من ذلك الباب البغيض إلى نفوسهم". ويتابع السحار: "وما كان بغضهم للمكان يرجع إلى قسوة العمل وصعوبته، فلو كان الأمر يتعلق بالعمل وحده لهان الخطب ولأحبوا المكان بل لهاموا به، ولكنهم كرهوا المكان لما رأوا أحداثا- حسبوها عجيبة بادئ الأمر- تتابع على مر الأيام بغضت إليهم العمل بل جعلتهم يسيئون الظن بالحياة: رأوا باطلا يسيطر ومتملقا يسود وصاحب حق يداس ورئيسا يتصرف تصرف الوارث في ضياع الآباء". إنها مجموعة قصصية لمبدع مصري كبير وصاحب ضمير يقظ ليصول ويجول بدفق مداده ورغبة واضحة في إصلاح بعض أوجه الاعوجاج في الحياة الوظيفية، فيما كان من الطبيعي أن يتناول عبد الحميد جودة السحار بمعالجات إبداعية مسائل وقضايا مثل ترقيات الموظفين والترشيح للدرجات الخالية وجزاءات العمل وتعقيدات العلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين في دوائر البيروقراطية، ناهيك عن حيل التهرب من العمل الجاد. كما تصدى السحار في هذه المجموعة من الأقاصيص التي صدرت في نهاية عام 1944 لإشكالية العلاقة بين راتب الموظف والغلاء أو كما يقول عن راتب إحدى شخصياته: "الغلاء شديد ومرتب عمر لا يكاد يمسك رمقه"، وهي إشكالية تولد أحيانا ظاهرة الفساد حسبما تفصح كلمات هذا الأديب المصري الكبير والذي يحق وصفه بأنه "أحد الآباء الثقافيين المصريين". ومسألة بلوغ سن التقاعد و"الإحالة إلى المعاش" حاضرة بالتأكيد في هذه المجموعة القصصية التي أضاف عبد الحميد جودة السحار لطبعتها الصادرة عام 1962 مسرحية بعنوان: "بالمناقصة"، فيما كانت أول رواية له قد صدرت بعنوان: "في قافلة الزمان". والأدباء والمبدعون عموما هم اكثر الناس إحساسا بمرور الزمن، فكثير منهم عند بلوغ هذه السن يشعر بالتحرر من قيود العمل الوظيفي وينشغل بالإبداع والقراءة، فيما قد يهتم بعضهم بتدوين ذكرياتهم كما فعل الشاعر عامر بحيري في مقالات متتابعة نشرتها مجلة "الأديب" اللبنانية تحت عنوان "حصاد السنين". ومن الذي ينسى أن الأديب والمفكر عباس محمود العقاد دون خواطره في كراسة خاصة نشرها بعنوان "خلاصة اليومية"، بينما اختار عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين "الأيام" عنوانا لسيرته الذاتية، فيما اتجه الشاعر الرقيق كامل الشناوي لنزعة تشاؤمية في ذكرى مولده ليقول: "عدت يا يوم مولدي.. عدت يا أيها الشقي". وللأدباء والشعراء والمبدعين مع الزمن مواقف وقصص وطرائف وعبر سواء في مصر والعالم العربي أو في الغرب وقد تتشابه المواقف والمشاعر ولا يختلف أديب مصري كبير مثل يوسف القعيد عن روائية غربية بارزة كهيلاري مانتل! وها هي الكاتبة الروائية البريطانية الشهيرة هيلاري مانتل البالغة من العمر نحو 63 عاما تقول في حديث لصحيفة "الأوبزرفر" إن مشكلتها لم تكن أبدا الأفكار وإنما هي الزمن، معتبرة إنها عاشت "حياة من الألم" جراء مشاكل صحية لا تنتهي. وتستعيد هيلاري مانتل الزمن الذي مضى وأيام الصبا والطفولة بقولها "اكتشفت شكسبير وأنا في العاشرة من عمري ولم يخبرني أحد وقتها أن قراءة أعماله ليست بالمسألة السهلة والحقيقة أنني كنت أشعر بمتعة وأنا أقرأ هذه الأعمال الأدبية". والحقيقة أن المرض الذي داهمها منذ ميعة الصبا وسبب لها اضطرابات هرمونية حرمها من نعمة الأمومة، فيما تتجاوز قصة هذه الكاتبة مجرد فوزها بجائزة بوكر مرتين وهي أول بريطانية تحقق هذا الإنجاز، فالقصة أكبر من بوكر. إنها قصة مبدعة تجسد معنى الكتابة عندما تكون قبلة للحياة وترياق المحنة بقدر ما هي قصة امرأة تعرف معنى الزمن وقيمة الوقت وتلهم كل الذين جرحتهم الأيام، أو أدمت قلوبهم، فهي مهمومة بفكرة الموت الذي يمكن أن يداهمها دون أن تنجز كل ما أرادت إنجازه من إبداعات وكتابات يمكن أن تشكل حياة جديدة لها بعد موتها. والإحساس الحاد بالزمن سمة الكثير من الأدباء والمبدعين، فيما لسن الستين بما تمثله من تقاعد عن العمل والإحالة للمعاش معنى للعديد من المصريين وقد يعاني البعض من شرخ نفسي هائل عند الإحالة للتقاعد مقابل سعادة البعض الآخر وخاصة من المبدعين جراء التحرر من قيود العمل. ووفقا لدراسة لحسني سيد لبيب عنوانها "لمحات الشعراء عن رحلة العمر"، يتفاوت إحساس الأدباء بمرور الزمن، فمنهم من يتحسر على عمر ينقضي ومنهم من يطلق آهات الشجن على شباب ولى، ويطلق عبارات التمني بعودة هاتيك الأيام الحلوة ومنهم من يعتبر كر السنين نذيرا بدنو الأجل. وتحت عنوان: "سبعون"، قال الكاتب والروائي المصري يوسف القعيد عندما بلغ ال70 عاما إنه اكتشف أنه أصبح في السبعين، "والسبعون سن متقدمة في زماننا والسبعون في أيامنا رقم مخيف كأنني مثل طيار الطائرة الماليزية المختفية اخترقت حاجز السحاب ودخلت في سدرة المنتهى". وفيما اعترف أن سنواته " لم تكن سعيدة"، يضيف القعيد "تخيفني السبعون لأنني عندما قرأت مذكرات تولستوي مازلت أذكر عبارة قال فيها إن الإنسان بعد سن الخمسين يبدأ رحلة العودة على الرغم من أن تولستوي تجاوز المائة من عمره وكان في أكمل صحة وأحسن حال حتى لحظته الأخيرة في هذه الدنيا". ومضى القعيد في تأملاته ليقول: "لا أعتقد أن أي قاعدة يمكن أن تحكم اقتراب الموت منا، فهو الحقيقة الوحيدة المؤكدة في هذا العالم"، موضحا أنه توقف أمام رحلة العودة التي تحدث عنها الأديب الروسي العظيم تولستوي وكان يقصد العودة إلى القبر. وتابع القعيد: "عندما ذهبت مع الكاتب محمد حسنين هيكل لدفن شقيقه الوحيد الدكتور فوزي في مقابرهم بجوار مقابر الكومنولث وجدت مكتوبا على المقبرة من الخارج" دار العودة"، فيما ينتقل القعيد لعودته الثانية ل"دار الهلال"؛ تلك المؤسسة الصحفية الثقافية العريقة التي نظمت احتفالية مشهودة بمناسبة بلوغه سن السبعين عاما بقدر ما كانت هذه الاحتفالية إحياء لقيم تاهت. وكان يوسف القعيد قد استهل هذا الطرح الممتع بقوله: "بحثت طويلا في كتاب "سبعون" لميخائيل نعيمة لكي أدخل سبعينيتي مسلحا بقراءته ولكني عجزت عن العثور عليه ولأنه كتاب قديم لم يكن من السهل اللجوء للبحث عنه في المكتبات لقراءته"، موضحا أن مكتبته غير منظمة فهو يهتم كثيرا بشراء الكتب لكن ترتيبها وتبويبها مسألة صعبة ومضنية ويتصور أنها تأكل الوقت. وأثناء بحث يوسف القعيد في كتب السير الذاتية والتراجم وقع في يده كتاب "مشارف الخمسين"، للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، فيما يصفه القعيد بأنه من شعراء العمر القصير، فقد مات مبكرا. وحياة يوسف القعيد كما وصفها في عامه السبعين لم تكن حياة "العمر المستقر"، موضحا أن في حياته "انتقالات وتقلبات ورحلات تبعد بالعمر كثيرا عن حكاية الاستقرار". غير أن الكاتب يوسف القعيد ينظر لمن يعيشون حياة مستقرة إن كانوا من الكتاب ويسأل نفسه: "لماذا يكتبون وكأن الكتابة مرتبطة بالعناء والمعاناة وتعب كل يوم الذي يسلم الإنسان لتعب آخر".. أما الشاعر خليل جرجس خليل فقد صاغ قصيدة من وحي السنين بدأها بتساؤل أشبه بتساؤل الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي: "الأربعون بلغتها! بالله كيف بلغتها؟!". ومن الطريف أن الشاعر محمود عبد الحي ينفي زعم البعض بأن سن المعاش نذير الموت بقوله في قصيدة عند خروجه إلى المعاش: "يقولون المعاش نذير موت.. فقلت جهلتمو معنى المعاش"، ويختمها بقوله: "وداعا للشقاء إذن فإنني/ خرجت من الممات إلى المعاش"!