فتى الشاشة المثقف أكثر أبناء جيله بعيدًا عن أزمات وأحلام جيل الستينيات الذين تابعوا جنازة وعزاء نور الشريف، والذين لم يتابعوها، يشعرون بالخسارة. ليست الخسارة المعتادة التى نشعر بها عندما يموت شخص محبوب لدينا، ولا الخسارة التى نشعر بها عندما يموت شخص عظيم ومؤثر فى مجاله، عالم أو أديب، أو فنان، لكنها الخسارة التى يشعر بها الكبار عندما يبدأ أصدقاؤهم ومعارفهم فى التساقط واحدًا تلو الآخر، فيبدأون فى تذكر من رحل ومن بقى، عندما رحلت فاتن حمامة وعمر الشريف ومن قبلهما صباح وأحمد رمزى منذ عدة أشهر، شعر الكثيرون بأن جيلًا وعصرًا كاملًا قد رحل. عندما مات أحمد زكى منذ عشر سنوات كانت الصدمة فى رحيله المبكر، قبل الأوان. ورغم أن نور الشريف أصغر أبناء هذا الجيل، الذى يضم عادل إمام ومحمود يس ويحيى الفخرانى ومحمود عبد العزيز وعزت العلايلى وحسين فهمي، إلا أن الذين صدمتهم وفاة نور الشريف وشاهدوا أبناء جيله يتسندون حزنًا، وعجزًا، فى جنازته، خطرت ببالهم تلك الفكرة المزعجة: أن نور لا يرحل وحده، ولكن هناك جيلًا كاملًا هيمن على السينما المصرية لنصف قرن تقريبًا قد بدأ فى الرحيل. لا نقصد الرحيل بجسده، فالأعمار بيد الله، ولا التوقف عن الإبداع، فهم لا يزالون يتألقون فى السينما والتليفزيون وحتى المسرح، ولكن أقصد العالم الذى عاشوه وعايشوه وعبروا عنه فى عشرات من أعمالهم منذ الستينات وحتى الآن. نشأ جيل نور الشريف ورفاقه فى أحضان الأحلام القومية، وتفتح على هزيمة 1967، وشاركوا فعليا أو معنويا فى انتصار 1973 ، ثم عصفت بهم رياح التغيير عقب الانفتاح والصلح مع إسرائيل، ووصلوا إلى النضج فى الثمانينيات وواصلوا التألق بدرجات من النجاح متفاوتة.. وقد جسدوا طوال هذه العقود صورة الرجل المصرى والمصريين خلال نصف القرن العصيب. تفتح وعى نور الشريف، مثل أبناء جيله، على أحلام الاشتراكية والوحدة العربية والحرب ضد الصهيونية والاستعمار. أكاد أتخيل طفولته وصباه فى حى السيدة زينب، حيث ولدت شخصيًا وعايشت بعض ما عايشه نور الشريف فى نفس المنطقة. تروى لى أمى أنها كانت تشاهد نور الشريف فى الحى عندما كان لا يزال يتردد على الحى لزيارة أهله. كان الناس يتجمعون حوله ويتناقلون خبر زيارته وظهوره. نصف قرن تقريبًا مرت على هذه الأيام، التى سبقت حرب 1967، وقتها كانت المعنويات مرتفعة والأحلام تحلق فى السماء، والطبقة الوسطى، التى تنتمى لها أسرة نور، تعيش أزهى عصورها. لم يكن حلم الطفل اليتيم الفقير محمد جابر بدخول معهد الفنون المسرحية، وتحويل هوايته فى التمثيل إلى مهنة أمرًا مستغربًا أو استثنائيًا. كان التعليم مدخل أبناء وبنات هذا الجيل للصعود والتفوق، والمجتمع الناهض كان يسوده احترام للثقافة والفنون. فى حى السيدة زينب، حيث ولد نور الشريف وعاش طفولته وصباه، كان هناك حوالى ثمانى دور عرض درجة ثانية، لم يبق منها الآن سوى سينما «الشرق»، وكان هناك سور للكتب المستعملة ينافس سور الأزبكية تحول الآن إلى جراج للسيارات، ولذلك ليس مستغربًا أبدًا أن يتشكل وعى الطفل الانطوائى الخجول على عشق السينما والقراءة. لم تكن مجرد مصادفة أيضًا أن يكون أول فيلم يشارك فيه الشاب نور الشريف هو «قصر الشوق» المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ والذى قام بإخراجه حسن الإمام، أكثر المخرجين شعبية ونجاحًا جماهيريًا وقتها. كان من حظ نور الشريف، وجيله، أنهم عاصروا جيلين عملاقين من مخرجى وكتاب السينما المصرية: حسن الإمام، يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، كمال الشيخ، حسين كمال، من ناحية، وجيل ما عرف بمصطلح الواقعية الجديدة، أو جيل الثمانينات، رأفت الميهي، محمد خان، عاطف الطيب، خيرى بشارة، داود عبد السيد، ومن بينهما من جيل جماعة السينما الجديدة التى تشكلت عام 1968: محمد راضي، على عبد الخالق، ومحمد كامل القليوبي.. وهذه الأسماء ليست حصرًا للجميع بالطبع. نور الشريف، أكثر من أى ممثل آخر، يمثل جسرًا بين عصرين سينمائيين، عصر الستينات الذى بدأ منذ الأربعينات وانتهى على أبواب السبعينات، وعهد الثمانينات الممتد حتى الآن. ملامح نور الشريف الوسيمة الهادئة تنتمى إلى الجيل القديم، على عكس أحمد زكى أو حسين فهمى مثلًا، اللذين يجسدان صورتين متطرفتين للرجل المصري: الأسود الشعبى ذي الأصل الريفي، والأشقر ذي الأصل التركى أو الأوروبي. ملامح نور الشريف ولهجته قاهرية، مدنية، تذكرك بشخصيات وعالم نجيب محفوظ، ملامح وسط، لا توحى بالطبقات الفقيرة المطحونة، ولا بالطبقات الأرستقراطية المرفهة. هو أفضل من عبر عن الشاب القاهرى فى فترة السبعينيات فى عدد من الأعمال التجارية المتواضعة التى تتناول التفكك الاجتماعى وحيرة الشباب بين الحرية والتزمت. تذكر على سبيل المثال أفلام «السراب»، «بئر الحرمان»، امرأة لكل الرجال، بنات فى الجامعة، المتعة والعذاب، ولد وبنت وشيطان، و«زوجتى والكلب»، وهى أفلام يمكن الحديث عنها فى سياق واحد مع أفلام أخرى مثل «أبى فوق الشجرة» لحسين كمال و«حمام الملاطيلي» لصلاح أبو سيف...وغيرها من الأفلام «الجريئة». تذكر أيضًا أن بعض رفاق نور الشريف قاموا ببطولة أفلام إباحية فى لبنان. مع الخروج من متاهة وتفكيك السبعينيات عادت السينما المصرية إلى جديتها، بل وتجهمها وميلودراميتها المأساوية عقب اغتيال الرئيس أنور السادات. المثقفون الذين صدمتهم رياح الانفتاح و«كامب ديفيد»، استفاقوا وبدأوا فى شن هجوم إبداعى منظم ضد كل ما فعله السادات، وظهرت سيناريوهات عديدة تربط بين سقوط الطبقة الوسطى وصعود اللصوص وتجار الشنطة وخيانة انتصار أكتوبر، ويكفى أن تتذكر «سواق الأتوبيس» و«كتيبة الإعدام» من بين أفلام أخرى. عبر نور الشريف، أكثر من غيره، عن جيل الستينيات خاصة المثقفين واليساريين، وهو لم يخف ميوله الناصرية، ولا مواقفه السياسية، التى تجلت فى معظم أعماله.