وكيل الرياضة بالدقهلية تعقد اجتماعا موسعا مع مديري الإدارات الداخلية والفرعية    «المركزي»: البنوك إجازة يومي الأحد والاثنين بمناسبة عيد العمال وشم النسيم    فى مواجهة التحديات    موعد صرف معاشات مايو 2024 بالزيادة الجديدة.. والاستعلام عن معاش تكافل وكرامة بالرقم القومي    السردية الفلسطينية!!    السفارة الروسية: الدبابات الأمريكية والغربية تتحول «كومة خردة» على أيدي مقاتلينا    رحيل كلوب.. الإدارة الجديدة.. والبحث عن تحدٍ مختلف    أنشيلوتي: ماضينا أمام البايرن جيد وقيمة ريال مدريد معروفة لدى الجميع    بسبب أولمبياد باريس.. مصر تشارك بمنتخب الناشئين في بطولة إفريقيا للسباحة للكبار    أمن المنافذ يضبط 19 قضية متنوعة و1948 مخالفة مرورية    حفل زفاف أسطورى    عبقرية شعب.. لماذا أصبح شم النسيم اليوم التالى لعيد القيامة؟    تعرف على أفضل الأدعية والأعمال المستحبة خلال شهر شوال    جامعة قناة السويس تُطلق قافلة طبية لحي الجناين بمحافظة السويس    أحلى فطائر تقدميها لأطفالك.. البريوش الطري محشي بالشكولاتة    الهند.. مخاوف من انهيار جليدي جراء هطول أمطار غزيرة    العرض العالمي الأول ل فيلم 1420 في مسابقة مهرجان أفلام السعودية    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    وكيل تعليم بني سويف يناقش الاستعداد لعقد امتحانات النقل والشهادة الإعدادية    الشيخ خالد الجندي: هذه أكبر نعمة يقابلها العبد من رحمة الله    مصري بالكويت يعيد حقيبة بها مليون ونصف جنيه لصاحبها: «أمانة في رقبتي»    حجازي: نسعى للتوسع في «الرسمية الدولية» والتعليم الفني    ردود أفعال واسعة بعد فوزه بالبوكر العربية.. باسم خندقجي: حين تكسر الكتابة قيود الأسر    فرقة ثقافة المحمودية تقدم عرض بنت القمر بمسرح النادي الاجتماعي    بالتعاون مع المدارس.. ملتقى لتوظيف الخريجين ب تربية بنها في القليوبية (صور)    رئيس «هيئة ضمان جودة التعليم»: ثقافة الجودة ليست موجودة ونحتاج آلية لتحديث المناهج    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    الاقتصاد العالمى.. و«شيخوخة» ألمانيا واليابان    إصابة شخص في تصادم سيارتين بطريق الفيوم    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    بعد انفجار عبوة بطفل.. حكومة غزة: نحو 10% من القذائف والقنابل التي ألقتها إسرائيل على القطاع لم تنفجر    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    وزيرة الصحة يبحث مع نظيرته القطرية الجهود المشتركة لدعم الأشقاء الفلسطنيين    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    مصطفى مدبولي: مصر قدمت أكثر من 85% من المساعدات لقطاع غزة    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    تراجع أسعار الذهب عالميا وسط تبدد أمال خفض الفائدة    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دماء المصريين "محطة الوصول" إلى يوليو
نشر في البوابة يوم 21 - 07 - 2015

مقدمات «الرافعى» أكدت ما جاء في أوراق جلال ندا حول الكفاح في حرب 48 والقناة وانتخابات نادي الضباط
بريطانيا كانت تتمنى مواجهة جيش مصرى غير مستعد في القناة لتكرر مأساة النكبة لكن الشعب قام بالمهمة ونجح في تقويض دعائم مستعمراتهم هناك
حكومة الوفد انتهزت فرصة انشغال الأمة بالكفاح في القنال ومضت في سياستها القائمة على الفساد والحزبية الجامحة
في يوليو حدثت الثورة، وقبلها بنحو أربع سنوات، حدثت مسببات النكبة العربية، في يوليو أيضا، لا في مايو كما يعتقد الذين أرخوا لها ببداية الحرب ومفاوضات الهدنة، فيما الأحداث كلها تشير إلى أن يوليو الذي كان شهرا للنكبة والهزيمة في 1948، تحول بعد تشكيل اللبنة الأولى للضباط الأحرار بعدها، ليكون شهر الثورة التي غيرت مجرى الأحداث في مصر.. في هذه السلسلة من الحلقات نتحدث عن الحرب وذكرياتها، من خلال أوراق الراحل البكباشى جلال ندا الذي استودعها أمانة لدى الكاتب، وفيها أيضا الكثير من الوقائع التي ذكرها على لسانه باعتباره شاهدا على مجريات الأحداث، أو على ألسنة قادة الثورة أنفسهم، كاشفا ما غم على كثير ممن أرخوا للحدث العظيم في تاريخ مصر الحديث، ومع تتابع الحلقات سنتعرف على ندا شخصيا مصحوبا بذكرياته عن الحرب التي شارك فيها، وكيف أنقذ جمال عبدالناصر من الموت، بينما هو قعيد مصاب لا يجد منفذا لعلاجه، وكيف كانت قيادة البطل أحمد عبدالعزيز للفدائيين، وعن الهدنة التي خربت التاريخ المعاصر للعرب، وتسببت في هزيمتهم بالشكل الذي يؤرخ له المؤرخون باعتبارها النكبة العربية، ودور الإخوان المسلمين في هذه الهزيمة، وخطة القائد عبدالعزيز لاحتلال القدس، ونتيجة رفض القيادة لها، وبعدها نستمع لشهادته عن بدء تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، وكيف تشكلت علاقة محمد حسنين هيكل بعبدالناصر، ثم الحوارات التي أجراها مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتحقيقنا لبعض مما ورد فيها، عبر شهادات أخرى لم ترد في مذكراته، سعيا للبحث عن حقيقة ما حدث في مصر منذ العام 1948 إلى قيام الثورة لنصل إلى ذهاب السادات إلى القدس، ورأى المعاصرين لعهده في هذه المبادرة، كل هذا وأشياء أخرى ستمثل مفاجآت نتركها لوقتها.
سخونة الأحداث جعلتنا نخرج مؤقتًا من أسر مذكرات الراحل البكباشى جلال ندا، لا لنوسع دائرة الحديث عن الثورة، عبر أفضل من أرخ لها في رأى الكثيرين، من خلال المؤرخ عبد الرحمن الرافعى، بل لنؤكد الكثير مما قاله ندا وأكده الرافعى إجمالا وبالتفصيل أحيانا، في معرض حديثه عن الثورة، في كتابه «مقدمات ثورة يوليو».. حيث قال: ولما دخل الجيش حرب فلسطين في مايو 1948، كشفت المعارك عما كان يجرى من خيانة ورشوة وفساد في إدارة الجيش وتسليحه وتموينه، وتبين أنه لم يزود بالسلاح الكافى، الأمر الذي تسبب في تعرض الجنود والضباط للموت والهلاك، بسبب فارق التسليح بينهم وبين العدو.. استفزت هذه المآسى في نفوس الضباط النقمة على النظام الذي يعرض الجيش والوطن للويلات والكوارث، فكانت حرب فلسطين هي الشرارة التي ألهبت فيهم جذوة التحرير والثورة.
تعهدت هذه الجذوة فئة من خيرة الضباط، على رأسهم جمال عبد الناصر، فألفوا من بينهم جماعة باسم «الضباط الأحرار» جعلوا هدفهم إنقاذ البلاد بواسطة الجيش والشعب من الانهيار، الذي أوصلها إليه الملك السابق والاستعمار، كانت فكرة هذه الجماعة موجودة خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تدخل في دور التكوين إلا في حرب فلسطين، وبدأت في التنظيم سنة 1949.
اجتمعت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار أواخر سنة 1949، وكانت تضم في البداية: البكباشى جمال عبد الناصر، والصاغ عبد الحكيم عامر، والصاغ كمال الدين حسين، والصاغ صلاح سالم، وقائد الجناح جمال سالم، وقائد الأسراب حسن إبراهيم، وقائد الجناح عبد اللطيف البغدادى، والصاغ خالد محى الدين، والبكباشى أنور السادات.. وفى يناير سنة 1950 أجريت الانتخابات لرياسة هذه الهيئة، فانتخب جمال عبد الناصر رئيسًا لها بالإجماع، كانت هذه الهيئة هي قوام ثورة 23 يوليو سنة 1952، وصارت فيما بعد مجلس قيادة الثورة.
أخذ الضباط الأحرار يبثون في نفوس إخوانهم عامة روح الثورة، ويضمون إليهم الأنصار تدريجيًا، ويطبعون المنشورات السرية بتوقيع «الضباط الأحرار» ويوزعونها على الشعب كله، وفى يناير 1951 أجريت انتخابات جديدة لهيئتهم التأسيسية، وأعيد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا لها، وتكرر انتخابه في يناير سنة 1952، وفى هذا الاجتماع الأخير اتفقوا على اختيار اللواء محمد نجيب لكى يكون قائدًا للحركة في يوم تنفيذها، وبقى هذا الاختيار سرًا مكتومًا بينهم ولم يفضوا به إلى اللواء محمد نجيب إلا قبيل معركة انتخابات نادي ضباط الجيش.
ولما قام الكفاح في القنال في أكتوبر سنة 1951 بعد إلغاء المعاهدة، لم يشترك الجيش في المعركة، لأن الظروف لم تكن مواتية لاشتراكه فيها، ولكن بعض ضباطه ساهموا فيها سرًا بتدريب الفدائيين على حرب العصابات وإمدادهم بالسلاح والذخيرة والمفرقعات وبالمساهمة الشخصية فيها، وأخذت الروح العدائية للملك السابق تنتشر في صفوف الضباط باعتباره المسئول الأول عن فساد إدارة الجيش وتزويده في حرب فلسطين بالأسلحة والذخائر الفاسدة. وظهرت هذه الروح سافرة في ديسمبر سنة 1951 في انتخابات نادي الضباط.
الضباط يتحدون ضد الملك
كان محددًا لاجتماع الجمعية العمومية للنادي يوم الخميس 27 ديسمبر عام 1951 لانتخاب رئيس النادي وأعضاء مجلس إداراته، وعلمت إدارة الجيش وفاروق بأن الضباط متجهون إلى إبعاد العناصر الموالية له، من رياسة النادي وعضوية مجلس الإدارة، وكان الملك يريد إسناد رياسة النادي إلى صنيعته اللواء حسين سرى عامر، وفى الوقت الذي أخذ فيه الضباط الأعضاء يفدون على دار النادي تلقت إدارته أمرًا من إدارة الجيش بإلغاء الاجتماع وتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى.
وبالرغم من صدور الأمر بإلغاء الاجتماع، فإن الضباط اجتمعوا وأخذوا يتشاورون في الموقف، وخطب بعضهم خطبًا حماسية، وانتهى الرأى بينهم إلى عقد اجتماع آخر للجمعية العمومية حددوا موعده، وتحدوا بذلك أوامر السراى، وفى أثناء الاجتماع أذيعت أسماء من اتفق الضباط على ترشيحهم لمجلس إدارة النادي، وجميعهم من الضباط الأحرار، فتبين من هذا الترشيح أن الضباط الأحرار مؤيدون من زملائهم جميعًا، وبالفعل اجتمعت الجمعية العمومية للنادي في الموعد المحدد وحضرها نحو خمسمائة ضابط من مختلف الأسلحة، وكان اجتماعًا هامًا، تجاوب فيه الجيش مع الشعب، إذ أصدرت الجمعية العمومية قرارًا جماعيًا بأن الجيش المصرى جزء من مصر يشعر بشعور مصر وإحساسها نحو المحتل وأنه دائمًا في خدمة قضية البلاد.
وأسفرت الانتخابات عن نجاح مرشحى الضباط الأحرار، فانتخب اللواء محمد نجيب مدير سلاح المشاة رئيسًا للنادي، وانتخب مجلس إدارته من الضباط الأحرار، وهم: «البكباشى زكريا محى الدين، البكباشى محمد رشاد مهنا، البكباشى أحمد حمدى عبيد، البكباشى عبد العزيز الجمل، البكباشى إبراهيم فهمى دعبس، البكباشى أنور عبداللطيف، الأميرالاى عياد إبراهيم الصاغ جمال حماد، البكباشى عبدالرحمن أمين، البكباشى حافظ عاطف، قائد الأسراب حسن إبراهيم، قائد الجناح بهجت مصطفى، الأميرالاى حسن حشمت، اليوزباشى أحمد عبدالغنى مرسي، البكباشى جلال ندا»، فيما فشل في الانتخابات الضباط المعروفون بأنهم من صنائع الملك والسراى، فأخذ الملك وصنائعه يتربصون للضباط الأحرار، ويعملون على الكيد لهم، ويتحدون إدارة النادي، وظهر هذا التحدى سافرًا في شهر يوليو سنة 1952، في عهد وزارة حسين سرى القصية المدى، كما سيجيء بيانه، ونشأت لذلك أزمة كانت من العوامل التي عجلت بقيام ثورة 23 يوليو سنة 1952.
الابتعاد عن الانجليز
أحسن الجميع صنعًا بتجنيب الجيش المصرى الاشتباك مع الإنجليز، في معركة سافرة أثناء الكفاح في القنال سنة 1951 - 1952، وكان الإنجليز يتمنون هذا الاشتباك، ليستدرجوا الجيش إلى منازلتهم في معركة لم يكن مستعدًا لها، وفى هذه الحالة كانت تستطيع بريطانيا أن تقضى على القوة الناشئة في الجيش المصرى، وأن تكسب مركزًا تناله في ميدان القتال، فتزداد تماديًا في اغتصابها، وتزداد مصر ضعفًا أمامها، ولم يكن غائبًا عن الأذهان ما كسبه الإنجليز من انتصارهم على الجيش المصرى في معارك الحرب العرابية سنة 1882، ولقد فطنت الحكومة كما فطن الضباط الأحرار إلى هذه الحيلة، فاجتنبوا وقوع اشتباك مسلح بين الجيش والبريطانيين، ووكلوا إلى قوات البوليس مهمة حفظ النظام وحماية أرواح المواطنين في منطقة القنال، وهى المهمة التي أداها رجال البوليس على أكمل وجه كما بينا من قبل.
فطن الإنجليز لموقف الجيش المصرى، فحاولوا أن يتخذوا من هذا الموقف وسيلة للوقيعة بين الشعب والجيش، فصرح أنطونى إيدن، وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في شهر ديسمبر سنة 1951 «بأن الجيش المصرى هو أشد المصريين حبًا في السلام وأن علاقته بنا هي علاقة الأصدقاء»، لكن هذه الحيلة لم تخف على فطنة الشعب، فإنه كان يعلم علم اليقين أن الجيش لم يكن صديقًا للاستعمار ولا لأعوان الاستعمار، ولم يكن موقفه في اجتناب الدخول وقتئذ في معارك ضد الجيش البريطانى، إلا تلبية لإرادة الشعب في ألا يدخل حربًا لم يكن مستعدًا لها، ولم يكن من الحكمة أن تتكرر مأساة فلسطين مرة أخرى، تلك المأساة التي نشأت عن دخول مصر الحرب على غير استعداد للقتال، وإذا كانت مأساة فلسطين سنة 1948 محدودة الدائرة لأنها وقعت خارج حدود مصر، فإن المأساة تنقلب إلى كارثة إذا دخل الجيش المصرى سنة 1951-1952 في حرب مع الجيش البريطانى في منطقة القنال قبل أن يكتمل استعداده.
الوفد وكفاح القنال
لم تستجب حكومة الوفد إلى دعوة الوحدة التي تقدم بها المعارضون، وصمت آذانها عن الاستماع إليها، واستمرت تتجاهل كل قوة وكل هيئة وكل فرد في البلاد سواها، وتبين أنها تقصد من توحيد الصفوف أن يخضع الجميع لأمرها، ويكفوا عن توجيه أي انتقاد إلى تصرفاتها، ولم تكتف بذلك، بل انتهزت فرصة انشغال الأمة بالكفاح في القنال، ومساهمة الكثيرين في هذا الكفاح، ومضت في سياستها القائمة على الفساد والحزبية الجامحة، فاستمرت تفصل العمد والمشايخ الذين كانت ترى فيهم عدم الولاء للوفد، ومضت في سياسة المحسوبية في الوظائف وما إليها، فكانت مرتعًا للأقرباء والأصهار والأنصار، واستمرت الصفقات المريبة في بيع أملاك الحكومة أو تأجيرها، وإغداق أموال الدولة على الأشياع والمحاسيب.
وفى الوقت الذي كان فيه المجاهدون الفدائيون يسقطون شهداء في ميدان الجهاد والتضحية، كان الكثيرون من نواب الوفد وشيوخه يتغلغلون في المصالح والدواوين، في القاهرة والأقاليم، عاملين على تحقيق مطالبهم ومطالب أشياعهم وأنصارهم على حساب مصالح المواطنين، ولم يسهموا بأى مجهود أو أي تضحية في معارك القنال، وكان جُل همهم أن يتحسسوا مدى تأثير هذه المعركة في مركز وزارتهم، كأنما بقاء وزارة الوفد في الحكم هو الهدف الأكبر للقضية الوطنية!.
ومن تصرفات حكومة الوفد الدالة على الإهمال أنها تعاقدت على شراء صناديق ذخيرة من سويسرا تحتوى على 150 ألف طلقة للبنادق، وشحنتها من مارسيليا بفرنسا على ظهر الباخرة شامبليون، إحدى بواخر شركة المساجرى ماريتيم الفرنسية، فيما تبين أن هذه الشركة المعروفة بموالاتها للصهاينة، أوصلت هذه الذخيرة إلى ميناء (حيفا) قبل أن تبحر إلى ميناء الإسكندرية، وهناك مكنت سلطات دولة الكيان الصهيونى الناشئة، وفقًا لقرار التقسيم من الاستيلاء عليها، ثم واصلت الباخرة سيرها إلى الإسكندرية خالية منها، وكان الأولى أن تشحن الحكومة هذه الذخيرة على باخرة مصرية، لكى تضمن ألا تسلمها الباخرة الأجنبية غدرًا وبطريق التواطؤ إلى إسرائيل، لكن إهمال حكومة الوفد جعلها تترك الاحتياط والحذر جانبًا، وتضيع على البلاد هذه الذخيرة القيمة.
نتائج كفاح الفدائيين
كان لكفاح الشعب في القنال صدى بعيد في الخارج، وكان دليلًا مشرفًا على حيويته وتعلقه بالجلاء والحرية، وكان خير دعاية للقضية المصرية، ومع أن معارك القنال كانت صغيرة المدى، فإن نتائجها كانت بعيدة الأثر في تاريخ مصر، فلم تكد حوادث الكفاح في القنال تتوالى، حتى كانت الصحف العالمية ومحطات الإذاعة في الشرق والغرب تتحدث عن هذا الكفاح وتطوراته، وكانت هذه الأنباء أكبر دعاية لجهاد مصر في سبيل تحررها من الاستعمار، وصارت القضية المصرية موضع حديث العالم وموضع تقدير أنصارها وخصومها على السواء.
ورغم أن مصر لم تكن مستعدة الاستعداد الكافى للقتال سنة 1951، ورغم أن الحكومة لم تعد العدة لتنظيم المقاومة، فإن هذا الكفاح، وما تخلله من بطولة وفداء، وجهاد وتضحية، ومقاطعة تامة، وعدم تعاون مع الاحتلال ومنع التموين عن قواته، قد أنتج ثمرات طيبة كان لها الأثر العظيم في تغيير وجهة النظر البريطانية في فائدة القاعدة الحربية في قناة السويس، بعد أن كانوا مصرين على رفض هذه الحقيقة، لذا اعترف الإنجليز في غمرة الكفاح بهذه الحقائق.
فقال اللورد ستانسجيت في هذا الصدد في مجلس اللوردات: «إن القاعدة البريطانية في منطقة القنال أصبحت لا تصلح عسكريًا، وإن الكرة الذي يحف بها يجعلها مهددة، فلا معنى لبقائها»، ونشر مراسل صحيفة التايمز في منطقة القنال، مقالًا في عدد 37 ديسمبر سنة 1951 وصف فيه حالة المعسكرات البريطانية، واعترف بفداحة الضربة التي أصابت القاعدة الإنجليزية في القنال، حين أجمع العمال المصريون على الانسحاب منها، وما أعقب هذا الانسحاب من إشاعة الفوضى والارتباك فيها، واعترف بفشل المحاولات التي اتخذت لجلب العمال من الخارج، وقال إن الأعمال الحيوية في المعسكرات أصيبت بارتباك خطير، وأصبح من المتعذر صيانة المقادير الهائلة من المعدات العسكرية، وأنه ليس من ينكر أن جو الاضطراب قد شاع في جوانب كثيرة من المعسكرات البريطانية، وأشار إلى أن أعمال الفدائيين المصريين قد قضَّت مضاجع الجنود البريطانيين. وأن الحياة العادية قد اختفت في المعسكرات على طول القنال، كما أن كثيرًا من المؤسسات التي قامت لضمان صلاحية القاعدة العسكرية والسهر على صحة الجنود ورفاهيتهم عطلت، وانقلبت الأمور في منطقة القنال بالنسبة للجيش البريطانى رأسًا على عقب، فبدلًا من أن يركز قواته في الاحتفاظ بالقاعدة والنهوض بها من كل الوجوه، أصبح يركز جهوده في حماية نفسه من هجمات الفدائيين والاحتفاظ بمواقعه، وبلغ من شدة توتر أعصاب الجنود البريطانيين أنهم «باتوا يتساءلون عن جدوى الاحتفاظ بقاعدة عسكرية فقدت قيمتها نتيجة الشعور الوطنى المعادى، وعما إذا كان من الأوفق تجنب احتكاكات سياسية جديدة بالبدء في إنشاء قاعدة أخرى في جهة تعرب حكومتها عن رغبتها في الانضمام إلى قيادة الشرق الأوسط، أو على الأقل في منطقة لا يكون وجود القوات الإنجليزية فيها مدعاة للسخط والاستنكار. الرافعى لا يزال يؤمن على ما قاله جلال ندا، حيث أضاف: وقالت مجلة «نيو ستيتمسان» في مقال لها عن مصر: «إن من أهم الأخبار التي وردت إلينا من مصر نبأ إباحة حمل السلاح للمواطنين هناك، فمن هذا النبأ، ومن الطريقة التي يسلكها الجنرال أرسكين في مصر، يبدو واضحًا أن خطر قيام حرب العصابات في مصر بات على الأبواب، ويتبين من سياسة الحكومة البريطانية أنها تود إنقاذ موقف بريطانيا بطريق القوة المسلحة، وكثيرًا ما حذرنا من مغبة هذه السياسة، وهاهى ذى الأنباء الأخيرة تؤكد أننا على حق في ذلك التحذير، فالشعور الوطنى في مصر متأجج، ولا سبيل إلى التفاهم مع مصر إلا بالطريق الودى، كما كانت سياسة وزارة العمال من قبل بالنسبة للهند، وإن كانت قد تناست تلك السياسة في المدة الأخيرة بالنسبة لإيران، وإن مستقبل المصالح البريطانية قد أصبح الآن هزيلًا، فإما جلاء، مخجل عن مصر، وإما اشتباك عسكري وفترة طويلة من الكفاح في ظل الأحكام العسكرية.
ومن الحق أن نقول إن الكفاح في منطقة القنال سنة 1951 - 1952 كان ولا ريب من العوامل الفعالة فيما انتهى إليه الإنجليز من إيثار الجلاء عن هذه المنطقة، لأنه إذا كانت مصر من غير استعداد، قد زعزعت مركز الإنجليز في قاعدة القنال وجعلتهم يتشككون في إمكان الاعتماد عليها إذا شبت الحرب، فكم يكون مركزهم فيها واهنًا ويزداد ضعفًا إذا أكملت مصر استعدادها الحربى والاقتصادى والمعنوى لتحرير القاعدة من كل ميزة حربية للعدو.
لا شك أن الإنجليز قد بدءوا بعد كفاح سنة 1951 - 1952 يغيرون رأيهم في مبلغ الاعتماد على هذه القاعدة، وخاصة بعد أن بعثت الثورة في جيش مصر روحًا جديدة، وزودته بالقوة المادية والمعنوية، كل هذا ولا ريب كان له أثره فيما انتهوا إليه من إيثار الجلاء عن هذه القاعدة في اتفاقية سنة 1954».
الرافعى توقف عند تاريخ يعلن عن مرور عامين على قيام الثورة، لكن تقريرًا رفعه السفير الفرنسى بالقاهرة لوزارة الخارجية الفرنسية، يعود بنا إلى أيام ما قبل الثورة، التقرير يعود إلى يناير عام 1952، وهو مواكب للحدث الذي بكر وقوع الثورة من عام 1955 كما كان مقررًا، إلى يوليو 1952 كما وقع بالفعل، التقرير تحدث عن انهيار سلطة الملك وضياع سمعته ثم الصراع بينه وبين مجموعة من الضباط، تطلق على نفسها اسم الضباط الأحرار، ونجاح هؤلاء في فرض اسم محمد نجيب رئيسًا لناديهم وهى واقعة لم يستوعبها الملك وقتها، إذ تبين بعد ذلك أن محمد نجيب نفسه هو الذي سيجبره على التنازل عن العرش، ثم مغادرة مصر نهائيا بعد قيام حركة 23 يوليو، ولعل أخطر ما ورد في هذا التقرير هو كشفه أن ولاء كبار ضباط الجيش للملك لم يهتز، إنما ولاء صغار الضباط هو الذي انهار تماما، ومع هذا قال التقرير إن ولادة ولى عهد للملك ربما تعيد له بعض الشعبية، غير أنه من المؤكد أن الملك قد انتهى سياسيا.
الغريب أن بعد ذلك بستة أيام بعث السفير ببرقية عاجلة يعلن فيها ميلاد الأمير أحمد فؤاد، وهنا مفاجأة كبيرة إذ أن البرقية التالية للسفير مؤرخة بتاريخ 27 يوليو أي بعد قيام الثورة بثلاثة أيام، وهو عبارة عن ترجمة لخطاب تنازل فاروق عن العرش، فهل يعنى هذا أن السفير انتظر بعض الشىء، لحين إمساك فاروق مرة أخرى بدفة الأمور في البلاد؟ أو لحين قيام حركة جيش مضادة أو ما شاكل ذلك وهو ما لم يحدث، وجاء خطاب التنازل لينهى كل تلك السيناريوهات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.