«البوابة» تجولت فى ورش صناعة الزى الأزهرى لتكتشف أسرارهم، فتراصت أدوات عتيقة يورثها الآباء إلى أبنائهم، كما يورثون مهنتهم خوفًا عليها من الزوال، لكنها باقية ببقاء صرح العلم الدينى العتيق، ونستمع لحكايات يرويها أصحابها عن تاريخ مهنة جليلة ارتبطت بجلال الأزهر. فى إحدى حارات منطقة الغورية، وبين جدرانها القديمة التى تحوى سحر الماضى وعبق التاريخ، وقف «ناصر» ممسكا ب«طربوش» يشده على ماكينة نحاسية عتيقة، يحافظ على مهنة ما زالت تقاوم الزمن على مدى عقود طويلة. ناصر عبد الباسط محمد، رجل خمسينى يعمل بمهنة صناعة الطرابيش منذ أن كان فى التاسعة من عمره، بدأ العمل «صبي» فى ورشة مع بعض «الصنايعية» إلى أن «شرب الصنعة»، وانطلق بعدها ليفتح ورشته الخاصة منذ حوالى عشرين عاما. يتحدث «ناصر» عن رواج بيع الطرابيش قديما: «الطربوش كان ليه أهمية كبيرة، وكل الرجالة كانوا بيلبسوه، ومكنش فى حد يقدر يروح مصلحة حكومية من غيره، وطلبة المدارس كان لازم يلبسوا طرابيش، وأيام ما كان فى منصب بوليسى اسمه الحكمدار، محدش كان يقدر يخشله من غير الطربوش، عدم لبس الطربوش وقتها كان عيبا وخروجا على المألوف». «المهنة ماتت لما الرئيس الراحل عبد الناصر قرر إلغاء الطربوش».. بتلك الكلمات تحدث «الطرابيشي» عن انحدار المهنة «كان فى 5 ورش طرابيش فى المنطقة دى بس، لكن مفضلش غير اتنين أنا وورشة تانية، والأزهر هو اللى أنقذ المهنة من أنها تختفي، لأن الأزهر الوحيد اللى حافظ على الزى بتاعه، ولأن المعاهد الأزهرية فى محافظات مصر كلها لسه بتلبس الطرابيش لحد دلوقتي». يمسك «عم ناصر» طربوشا ويصنعه على ماكينة الطرابيش أو «المكبس» كما يسميها، ويشرح طريقة صناعته للطرابيش: «بحط الصوف على المكبس لحد ما ينشف وبعدها أشتغل عليه بالإبرة أخيطه فى الخوص وشريط من الجلد، والشغل كله يدوي»، موضحا: «زمان كان فى أنواع كتير من الطرابيش، لكن دلوقتى مفيش غير نوعين زفير وصقر قريش، وفى أنواع صينى بس خامتها رديئة ومحدش بيشتريها». يمسك «ناصر» ببعض الطرابيش، ويوضح أنواع الطرابيش التى يصنعها: «فيه أنواع كتير، زى طربوش الملك فاروق اللى بيتلف عليه عمة شامية، وبيلبسه مفتى لبنان أو مفتى فلسطين، والنوع دا ليه زباينه من الشوام والعراقيين، وفيه طربوش محمد على وطربوش جنود محمد علي، ودى محدش بيشتريها إلا التليفزيون لما بيعملوا أفلام أو مسلسلات تاريخية. يشير ناصر عبد الباسط إلى مجموعة من الطرابيش الملونة بالأزرق والأخضر، ويقول: «الطرابيش الملونة دى بتتباع للأجانب، هما بيحبوا الحاجات التاريخية جدا، الرجالة بيشتروا الطرابيش الحمراء، وبناتهم وزوجاتهم بيشتروا الطرابيش الملونة»، ويضيف الرجل القاهرى: «أما طرابيش الأزهر بتنقسم لنوعين، الأول طربوش المقرئ ودا بيبقى لونه فاتح والزر بتاعه لونه لبني، لأن المقرئ بيحب الوجاهة عشان شكله يبقى حلو على الكرسي، والنوع الثانى هو طربوش الإمام أو الواعظ لونه غامق والزر بتاعه لونه أسود، لأن الإمام لازم يبقى عنده وقار ورزانة». «بحب صنعتى ومش عايزها تنقرض».. بتلك الجملة تحدث «الطرابيشي» عن مهنته التى لم يتبق من صناعها سوى القليل، مضيفا «هورث المهنة لواحد من عيالى ال6، وطول ما الأزهر موجود هيفضل الطربوش موجود، لأن الأزهر هيفضل متسمك بالزى بتاعه ومش هيتخلى عنه أبدا»، بحسب «عم ناصر». الشيخ الشيمى: الهيبة تبدأ من العمة أنهى أحد تسجيلاته القرآنية، وتحسس عمامته ليكتشف أنها تحتاج للتجديد، فقرر الذهاب إلى منطقة «الغورية» كعادته منذ سنوات لشراء «طربوش» جديد، وبعدما اشتراه وقف الشيخ «الشيمي» بزيه الأزهرى المميز أمام المرآة ليرى مظهره بالطربوش الجديد. محمود الشيمى، رجل خمسينى من مدينة الواسطى ببنى سويف، خطيب ومقرئ أزهري، يسافر إلى دول عديدة ضمن بعثات أزهرية، ويحرص على ارتداء الزى الرسمى للأزهر طوال حياته. يقول «الشيمي»: «بشترى الكاكولا من عند عم ناصر من حوالى 30 سنة، من أيام ما كنت لسه شاب صغير، وكنت بحب الزى الأزهرى جدا، وأفتخر بيه وأنا ماشى فى الشارع لما الناس تقولى يا عم الشيخ أو يا مولانا، ولما كبرت بفصل العمم عند عم ممدوح الترزى من حوالى 30 سنة». يحكى «الشيمي» عن سفره إلى خارج البلاد والتعامل الجيد الذى يلقاه «أنا بسافر بره مصر كتير، دول عربية وأوروبية ولما الناس كانت تشوفنى وأكون لابس اللبس الأزهرى كانوا بيسلموا عليا ويحترموني، لأن مظهر العمة والكاكولا بيدى للشخص مظهر مختلف». «الطربوش والكاكولا سمة من سمات شيوخ الأزهر» كلمات يصف بها «الشيمي» أهمية ارتداء الأئمة والخطباء الزى الأزهرى الرسمى فى أى مكان أو أى مناسبة، «المظهر ليه تأثير كبير على الناس، ولما شيخ بيطلع على المنبر يخطب وهو لابس الزى الأزهرى بيبقى تأثيره أقوى على الناس من الشيخ اللى بيلبس بدلة أو أى لبس تاني، ولازم أطفال الأزهر يتعودوا يلبسوه، لأنهم حماة الدين وهما اللى هيحملوا الرسالة من بعدنا». صانع «الكاكولا»: الأزهريون بيحبوا الغوامق بدأ عشق «ممدوح» للزى الأزهرى عام 1967، فقرر قضاء عمره فى صناعته ليصبح الوحيد المتخصص به الآن، «بدأت صبى عند ترزى كاكولا كبير، علمنى كل حاجة فيها وخطواتها، وحبيت الصنعة لأنها قليل لما يكون فيه حد مشهور بيها ومتخصص». يقول «ممدوح» الذى أنشأ ورشته الخاصة عام 1989 فى حى الجمالية بجوار مسجد الأزهر: «لما قررت أستقل وأعمل ورشتي، دوخت عشان ألاقى مكان قريب من الجامع، أنا عندى بيت فى المرج وباجى كل يوم من هناك لهنا، الزبون مش هيجى لو أنا بعيد عن الأزهر»، بحسب «صانع الكاكولا». فى إحدى يديه يمسك «ممدوح» بزى تركه صاحبه لإصلاحه، وباليد الأخرى يمسك ما صنعه هو، يبدأ فى التفرقة بينهما متفاخرا بتميزه: «أى ترزى بدلة ممكن يعمل كاكولا بس الوضع مختلف، الحرفة ليها أساس وخطوات، الشيوخ بيروحوا يشتروا من بره ويجوا هنا يصلحوها لأن مش ده الأصلي»، يقول الرجل الخمسينى الذى يكتفى بالنظر عبر شاشات التلفاز إلى الشيوخ، ليعرف من صنع لهم زيهم، «الياقة وشكل التفصيلة والكتف بتعرفنى الترزى ده متخصص ولا ترزى عادي، وعلشان كده أنا شغلى مختلف»، كما يوضح «عم ممدوح». الترزى وخبرته ليسا فقط هما من يصنعان الفارق فى شكل «الكاكولا»، ولكن أيضا صاحبها ومرتدوها، فزى الواعظ العامل بالأوقاف أو المعلم، يختلف عن زى مقرئ القرآن الكريم، «المقرئ بيفضل يكون لبسه واسع وشكله ليه هيبة أكتر وفيها شغل، عشان لما يمشى وسط الناس فى صوان مثلا يبان قيمته، لكن الأزهريون زيهم بسيط من غير شغل كتير»، ممسكا بأقمشة تختلف ألوانها، وتتنوع ما بين الرمادى والأسود والبنى والأزرق، ثم يضيف، «الكاكولا مالهاش لون معين، بس المقرئ بيفضل الأزرق الزهرى عشان لونه يبان وينور، لكن الأزهرى بيفضل الألوان الغامقة». طرابيشى: أدمغة المشايخ متعبة فى المقاسات ممسكاً بطربوش أحمر اللون، استلمه من أحد الشيوخ، يملأ الفتى الصغير «بدر» طبقاً بالماء والصابون، وبكلتا يديه يفصل القماش الأحمر، المميز للطربوش، عن الخوص ليغسله ويقلبه على الوجه الآخر، وعلى قالب من حديد يضع القماش بعد غسله، لتسخينه على درجة حرارة عالية تساعد فى تشكيله وترتيبه وإعادته كالجديد. بدر ناصر لم يدخل عقده الثانى أتى مرافقًا لوالده منذ أن كان طفلاً بعمر التاسعة، أبهره اللون الأحمر للطربوش، وقرر الأب أن يورثه المهنة حتى لا تنقرض «كنت بانضف وأساعد بابا فى حاجات بسيطة، دلوقتى بقيت بقف على المكبس وأشكل الطربوش» - يقول «بدر» الذى خشى والده عليه من درجة الحرارة المرتفعة المنبعثة من المكبس النحاس: «فى الأول كان بيخاف عليا أقف على المكبس بس علمنى وبقيت أقدر أستحمل» - بحسب الفتى بدر، ويضيف الأب قائلاً: «وأنا صغير زيه مكنتش باجى ناحية المكبس بس هو محظوظ إنه اتعلم بسرعة». يفخر الفتى الصغير بمهنته التى ورثها، يأتى يوميًا بعد يومه الدراسى للورشة الواقعة بشارع المعز.. ليصنع عددًا من الطرابيش، ويعود لمدرسته فى اليوم التالى يحكى عما صنعه وتعلمه «بحكى لأصحابى فى المدرسة عن الطرابيش والأزهر والمقرئين والشيوخ اللى بشوفهم وأعملهم طرابيش، وإزاى بعرف المقاسات وهما بيفخروا بيا» - يقولها «بدر». أجانب وزوار يحرصون على التقاط صور مع صانع الطربوش الصغير ووالده، يبهرهم إتقانه للمهنة الصعبة.. ويصر الفتى أن يرثها عن أبيه «لازم المهنة تفضل عايشة، ويفضل طربوش الأزهر موجود»، بحسب رأى «بدر».