هذا حديث عن حياة محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام في بيته.. عن الزوج والإنسان.. العاشق والمحب. أعرض هنا في حلقات متتابعة ل«سيدات بيت رسول الله»، استنادًا إلى كتابين قيمين الأول: «نساء النبى»، لبنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبدالرحمن، والثانى: «محمد في حياته الخاصة»، للدكتور نظمى لوقا أستاذ الفلسفة. وضع محمد عليه الصلاة والسلام سيدته الأولى خديجة أمام عينيه حينما دخلت سودة بنت زمعة فلم يستطع أن يطوع قلبه ل«أرملة المهاجر». كانت طاعنة في السن، وضن الله عليها بالجمال، فكان زواجًا ل«جبر الخواطر» أكثر من أي قيمة أخرى. أدركت «سودة» بتجربة سنها أن بينها وبين قلب محمد، صلى الله عليه وسلم، حاجزًا لا سبيل إلى اقتحامه. دخلتها رهبة من جلال زوجها، وقاست نفسها إليه، ثم إلى «خديجة» الزوجة الأولى، ثم إلى «عائشة» العروس الصبية المنتظرة فكأن الأرض تميد بها من فرط دهشتها. تذهب الدكتور عائشة إلى أن «سودة» عرفت من اللحظة الأولى التي جمعتها بزوجها أن الرسول هو الذي تزوجها، لا الإنسان. أيقنت دون ريب أن حظها من الرسول بر ورحمة لا حب وتآلف وامتزاج، لكن ذلك لم يرعها بل كان حسبها أن رفعها رسول الله إلى تلك المكانة، وأن جعل منها أمًا للمؤمنين. حاولت أن تقتحم قلبه غير أنها لم تكن تمتلك «مفاتيح محمد الإنسان». من بين ما يذكر عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان يضحك من مشيتها، وكانت «ثقيلة الجسم». أرادت أن تستغل ذلك لتربطه بها، وأن يأنس إلى خفة روحها أو يستلمح عبارة من عباراتها. قالت له مرة: «صليت خلفك الليلة يا رسول الله، فركعت بى حتى أمسكت بأنفى مخافة أن يقطر الدم»، فتبسم عليه الصلاة والسلام من قولها. أشفق الرسول عليها من الحرمان العاطفى، وكره لها قسوة الشعور بأنها ليست مثل الأخريات من زوجاته. دخلت إلى بيت النبى عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة عائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت جحش، وأم سلمة بنت أبى أمية المخزومى. حاول «محمد» جهد طاقته أن يفتح لها قلبه لكن بشريته لم تطاوعه، فكان أقصى ما استطاع إليها أن يعدل بينها وبين نسائه فيما يملك من مبيت ونفقة، لكن عواطفه فلا يستطيع أن يقصرها على غير ما تهوى. بدا له آخر الأمر أن يسرحها سراحًا جميلا من وضع أحس أنه يؤذيها ويجرح قلبها، وإن لم تبد بادرة شكوى أو ضيق. انتظر صلى الله عليه وسلم إلى أن جاءت ليلتها فأنبأها مترفقًا بعزمه على طلاقها. سمعت النبأ ذاهلة، وأحست كأن الجدران تطبق على صدرها فلا تدع لها متنفسًا، فرفعت وجهها إلى الرسول في ضراعة صامتة، ومدت يدها مستنجدة فأمسك بها رسول الله حانيًا مشفقًا، وبوده لو استطاع أن يذهب عنها الروع الذي كاد أن يقضى عليها. همست في ضراعة: «أمسكنى، والله ما بى على الأزواج من حرص، أحب أن يبعثنى الله يوم القيامة زوجا لك». عز عليها أن تحمله صلى الله عليه وسلم ما يكره، وأنكرت على نفسها ألا تستجيب لرغبته في تسريحها وهى التي تهب حياتها راضية لكى تتحرى مرضاته. أحس ببرودة الشيخوخة تناوش جسدها الكليل الثقيل، فخجلت من تشبثها بزوج تنافس على حبه عائشة بنت أبى بكر، وزينب بنت جحش، وأم سلمة بنت زاد الركب، وحفصة بنت عمر، وأنكرت أن تنزع لنفسها بين هؤلاء مكانًا، بل شعرت أنها تأخذ ليلتها مثلها، كأنما تأخذ ما لا حق لها فيه. همت بأن تجيب في قهر وعلى استحياء: «سرحنى يا رسول الله»، لكن الكلمات تعثرت على لسانها. طال عذابها وطالت حيرتها، والمصطفى إلى جنبها ينظر إليها صامتًا في إشفاق وتأثر. فجأة بدا لها خاطر سكنت له نفسها، فرنت إلى المصطفى في إعزاز ثم قالت في هدوء: «أبقنى يا رسول الله، وأهب ليلى لعائشة وإنى لا أريد ما تريد النساء». تأثر «محمد»، صلى الله عليه وسلم، بهذه العاطفة الفياضة وذاك الحب السمح، وراعه أن يأتى «سودة» ليسمعها كلمة الطلاق، وما أبغضها، فيكون جوابها هذا الإيثار النبيل تتحرى مرضاة الزوج الكريم. نجت سودة بنت زمعة من محنة فراقها لخير خلق الله، دون أن تستشعر الخزى بالحرص على الأزواج في مثل سنها العالية. لقد عاشت في بيت الرسول حتى لحق صلى الله عليه وسلم بربه، وفى الخبر أنها عمرت حتى توفيت في آخر زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنها. وقد ظلت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها تذكر لها صنيعتها، وتؤثر بجميل الوفاء، فتقول: «ما من الناس أحد أحب إلى من أكون في مسلاخه، من سودة بنت زمعة، إلا أن بها حدة».