إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم قيل أنه سُلطان العاشقين، ورماه المُتشددون بالكفر والإلحاد كما رموا من قبله الحلاج وغيرهم، وغادر هو الجميع ليعيش في خلوته وينعم بالعشق الإلهي؛ ولم يخرج من مصر سوى إلى مكةالمكرمة التي لبث فيها أعوامًا طويلة يُناجي الله تعالى، وعندما عاد اكتفى بأن يظل على العهد. هو عمر بن على بن مرشد بن على، كُنيته أبي حفص، وأبي القاسم، ولُقّب بشرف الدين، كان حموي الأصل -أي من حماة بسوريا- لكنه كان مصريًا خالصًا، ولد وعاش ومات في مصر، ذكر كتاب "سيرة إعلام النبلاء" أن أبوه قدم من حماة إلى مصر فسكنها، فصار يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحاكم، فلُقب بالفارض، ونقل ابن العماد عن المناوي أنه ولد سنة 566 هجرية، ونشأ في كنف أبيه، الذي كان من أکابر علماء مصر ويلزم ولده بالجلوس معه في مجالس الحکم ومدارس العلم، ولما شب اشتغل بفقه الشافعية تحت رعاية الشيخ أب الحسن البقال، وأخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري وغيره، فشاعت استقامته وقناعته وورعه وعبادته، وكان حسن الصحبة والعشرة، ثم بدأ في الانجذاب إلى طريق الصوفية فتزهد، ثُم تجرد وصار يأوي إلى المساجد المهجورة والأماكن الخربة وأطراف جبل المقطم، كما كان يأوي إلى بعض الأودية ثم يعود إلى والده بين وقت وآخر، ويرجع إلى خلوته. ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرق من النسيم إذا سرى وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكرا وكما ذكر كتاب "لسان الميزان"، ذهب ابن الفارض إلى مكة في غير أشهر الحج، وكان يُكثر العزلة في واد بعيد عن البلد، وبقي على هذه الحال حتى ألف الوحشة والخلوة دون أن يشتغل بالعلم وحفظه، وهناك بدأ ينظم قصائده التي قرر فيها عقيدته ومذهبه، وعاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامًا، وكانت عودته بإشارة من الشيخ البقال، وقال في سبب عودته"سمعت الشيخ البقال يناديني يا عمر تعال إلى القاهرة احضر وفاتي وصلِّ عليَّ"، فلبّى دعوته؛ فأقام بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر، فقصده الناس بالزيارة، ومعهم بعض كبار الدولة مما أجله في أعين العامة والخاصة، وفي هذا يقول ابن حجر"كان له صورة كبيرة عند الناس"؛ ولقد بعث إليه الملك الكامل أن يجهز له ضريحًا عند قبة الإمام الشافعي فلم يأذن له بذلك، فطلب منه أن يجهز له مكانًا يكون مزارًا له بعد موته فرفض. فدهشت بين جماله وجلاله وغدًا لسان الحال مني مجهرًا اهتم ابن الفارض بالزهد والتقشّف والعبادة والقناعة، وتثقّف تحت إشراف والده وتفقه على المذهب الشافعي؛ وكان متأثرًا بعصره، وهو العصر الذي انتقلت فيه الخلافة من الفاطمية الشيعية إلى الأيّوبية السنّيّة، حيث أخضع صلاح الدين الأيوبي مصر والشام لمذهب أهل السنة، كما أقبل الناس على الزهد والتقشّف بسبب استبداد السلاطين والحكام وظلمهم، وحروب الصليبيين، وما حدث من ظروف طبيعية كالطاعون وانخفاض مياه النيل؛ وتلاقى مع التيارات الصوفية المختلفة ومن أهمّها التيار المحافظ على التعاليم الدينية المأخوذة من الكتاب والسنة وتنفيذ الأحكام والعبادات، والتيار غير المحافظ على التعاليم الدينية وعدم التحفظ بأصولها ومبادئها؛ وقال البعض أن أشعاره تُمثل التيار الأول، مع استثناء بعض أبيات رأى المتشددون في ظاهرها الخروج عن الشرع، ولكنها في حقيقتها ضرب من الشطح الذي يبدو في ظاهره مخالفة لما جاء به الدين، واحتوت عليه تعاليم الكتاب والسنة؛ وكانت الأعوام الخمسة عشرة التي قضاها في مكة تطورًا عظيمًا لحالته في الصوفية والعبادة، كما كانت علامة في شعره الذي نظمه هناك وبدت عليه المسحة البدوية، وتتردّد في أبياته الصور الحجازية. أبَرقٌ بدا من جانب الغَور لامعُ أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع أنار الغضا ضاءت وسلمى بذي الغضا أم ابتسمت عمّا حكته المدامع لا يُعرف لابن الفارض آثارًا أدبية أو صوفية غير ديوانه الذي احتوى ألف وثمانمائة وخمسين بيتًا، ويدور على موضوع واحد فهو الشعر الصوفي في الحب والخمر؛ وتميز بخصائص فنّية وذو نزعة صوفية واضحة لما ظهر فيه من رقة الشعور، ودقة الحس، وسموّ العاطفة التي سيطرت على نفسه سيطرة قويّة، فكان يقضي حياته مُقبلًا على محبوبه، كلفًا به مشوقًا إليه، مفنيًا نفسه فيه، حتى ظفر من هذا كله بما قرت به عينه، واطمأن إليه قلبه، من اتصال بالذات العليا والحقيقة المطلقة التي هي عنده كل شيء في هذا الوجود، وإليها يردّ كل شئ؛ وأبرز مذهبه الصوفي وهو الحب الالهي الذي اتخذه موضوعًا لقصيدته "التائية الكبرى". وعن مذهبي في الحب مالي مذهب وإن ملتُ يومًا عنه فارقت ملّتي توفيَّ ابن الفارض عن عُمر يُناهز ست وخمسون سنة عام 632 هجرية في مصر ودفن بجوار جبل المقطم في مسجده المشهور عند مجرى السيل، حيث كان قد أوصى بذلك ليكون إلى جوار معلمه أبي الحسن البقال حسب القاسم بن عساكر.