كلاب الراعي الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، رواية متميزة على خلفية تاريخية في حقبة منسية، ينتقل الروائي أشرف العشماوي بك فيها على أجنحة خياله بعدسة سينمائية واسعة الزوايا متعددة الأبعاد، في سلاسة ويسر عبر أزمنة بعيدة وأجواء حافلة بالمؤامرات والدسائس والوشايات والخطط للوصول لحكم المحروسة في مشاهد سينمائية بارعة صاغها بحرفية روائي متمكن من السرد وبلغة واضحة تخلو من التقعر والملل فانسابت حروفه وكلماته وعبارته كالسيل حتى يكاد القارئ يلتقط أنفاسه وهو يتابع رحلة الحسن بن جمال الدين الرومي كاتب الديوان وصاحب المخطوطات التاريخية والثائر النبيل المثالي الذي لم تلوثه السياسة بعد، شارك في مقاومة الحملة الفرنسية ثم سلاطين المماليك وولاة الاتراك في مواجهة مع كلاب الراعي الذين يمثلون القوة والبطش وأولهم كمال سيف الدولة أخيه غير الشقيق ذلك المملوك الفظ الجبار الذي لا يتورع عن الاطاحة برقبة كل من يقف في طريقه للوصول إلى السلطة والجاه كمحتسب للقاهرة ومن ثم المحروسة كلها، تلك الشخصية الشريرة التي رسمها العشماوي ببراعة ودقة، فجائت إلى جوار شخصية الحسن الرومي لتكتمل الصورة تماما وتنسج خيوط درامية لرواية تاريخية تمثل علامة فارقة في مسيرة العشماوي الأدبية لا اظن أنه سيتطيع تجاوزها بسهولة في روايته القادمة. يناقش العشماوي بهدوء وسلاسة قضية الشقاق والمجتمع المنقسم بين مملوك ومصرى في زمن قديم ولا يخفى بالطبع الإسقاط السياسي وراء الكتابة، لكن يحسب له أنه كان دقيقا في وضع حوار يناسب كل شخصية بلا تكلف أو ادعاء أو لغة تقريرية ليظهر أزمة مجتمع من زمن بعيد دون أن ينحاز لطرف على حساب الاخر بل ترك القارئ هو الحكم فيما سطره. بذكاء شديد مثلما فعل المنسي قنديل في روايته الرائعة كتيبة سوداء التي كتبنا عنها مؤخرا اختار العشماوي بعناية فترة ميتة تاريخيا لم يكتب عنها الا قليلا وهى السابقة على تولى محمد على بسنوات قليلة وتحديدا عام 1803، فترة فوضى عارمة في بر المحروسة ربما لم يجد المؤرخون ما يكتبونه فاكتفوا ببضع سطور متناثرة هنا وهناك، لكن عين العشماوي السينمائية وخياله الواسع أتاحا له أن يخلق عالم روائي مثير في تلك السنوات مستخدما شخصيات خيالية متكئا على ملامح متخيلة في شخصية محمد على لينسج ببراعة خيوطا درامية تصور صراع حقيقي على السلطة وكيف يدار من خلال الكواليس من القوى العظمي من خلال قناصل دول فرنسا وانجلترا النمسا غير غافل للحياة الاجتماعية في مصر وقتها وكأنه عاش تفاصيلها في كل بيت. بالطبع سترشح دار الشروق والمصرية اللبنانية الروايتين لجائزة البوكر وسيكون التنافس على اشده بينهما. وجائت مشاهد المعارك الحربية متقنة للغاية وبالقدر الذي يريد العشماوي الوصول به للغرض من القصة أو الرواية صحيح أنه أسهب قليلا في رحلة الحسن بالصحراء لكنه عوض ذلك باستخدام ضمير المتكلم رغم أن الرواية بالكامل على لسان راوي عليم منذ البداية فجعل الإيقاع سريعا بغير ملل ووصف حياة المطاريد بصورة مذهلة وكأنه كان يعيش معهم هناك في جبال مدينة المنيا بصعيد مصر وربما تكمن روعة تلك الرواية أن العشماوي نقل القارئ إلى حياة بعيدة ومجتمع كامل وكأنه عاش فيه بمفرده عشرات السنين دون أي تكلف أو افتعال لتقرأ بين السطور كيف أن العشماوي مهموم بوطنه ويتمنى أن يراه في أفضل حال فعبر عن مخاوفه بالكتابة الروائية لينقل مشاعره بصدق. كعادة روايات العشماوى فإن العنصر النسائي فيها جاء غامضا ولكنه موحيا بمصر المحروسة مثلما يفعل دائما في كل قصصه، فرسم شخصية نورسين التي اختفت مؤقتا بين ثنايا سطور الرواية فهى لم تعد كما كانت مثل حال مصرنا اليوم لا تزال حلما أو صورة مهزوزة نحلم أن نراها ثابتة مستقرة لم تذهب ولم تمت لكنها مختفية مؤقتا. كلاب الراعي هي رواية العشماوي الخامسة بعد مسيرة أدبية أثبتت وجودها بقوة في الوسط الثقافى ولا اظن انها ستكتفى بذلك وأحسب أنها ستحصد جوائز لعل أبرزها تكون قوائم البوكر القصيرة أو غيرها من الجوائز المحلية في القاهرة. الملفت أن الرجل لا يدخل في صراعات أو معارك ادبية ولا يوجد مقعد ثابت له على مقاهي المثقفين بوسط البلد وهى الظاهرة التي لفتت الانظار مؤخرا وصارت اشبه بالموضة فيما يبدو أن العشماوي من هؤلاء الذين يعملون في صمت. أشرف العشماوي لفت بهذه الرواية الانظار بشدة لموهبته لكنه لم يعد في حاجة كي يؤكد للنقاد أنه روائي من عيار ثقيل أو أنه مختلف عن جيله بل في اعتقادي أنه بات يعمل حسابا فقط لقرائه الذين ينتظرون أعماله بشغف شديد ولعل مبيعاته الضخمة مؤخرا خير دليل على ما نقول.