إشراف: سامح قاسم إعداد: أحمد صوان يُعد الكاتب الراحل محمود السعدني أحد آباء الكتابة الساخرة في الوطن العربي، وكانت أعماله التي أثارت جنون بعض الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي هي نفسها مدخله إلى قلوب أجيال عديدة من محبيه تربوا على كلماته اللاذعة، وكان ثابتًا على مواقفه رغم النفي والسجن. ولد السعدني في 20 نوفمبر 1928 بالجيزة، أنهى دراسته ليعمل في عدد من الصحف والمجلات الصغيرة، ثُم في مجلة "الكشكول" التي كان يُصدرها مأمون الشناوي، حتى تم إغلاقها، فعاد للعمل بالقطعة في بعض الصحف مثل جريدة "المصري"، التي كانت لسان حال حزب الوفد، كما عمل أيضًا في دار الهلال، وأصدر كذلك مع رسام الكاريكاتير "طوغان" مجلة هزلية تم إغلاقها بعد صدور أعداد قليلة منها. أيّد السعدني ثورة يوليو منذ بدايتها، وعمل بعد الثورة في جريدة الجمهورية لسان حال الثورة التي تولى إدارتها أنور السادات، ثم كامل الشناوي بعد تولي السادات رئاسة البرلمان، ولكن سُرعان ما تم الاستغناء عن خدمات السعدني من جريدة الثورة مع العديد من زملائه منهم بيرم التونسي وعبد الرحمن الخميسي، فانتقل مُديرًا لتحرير مجلة روز اليوسف الأسبوعية إبان تولي إحسان عبد القدوس رئاسة التحرير، وكانت لاتزال حينها مملوكة للسيدة فاطمة اليوسف والدة إحسان. ساءت علاقة السعدني بنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أثناء زيارة عمل له إلى سوريا قبيل الوحدة بين البلدين، عندما طلب أعضاء الحزب الشيوعي السوري منه توصيل رسالة مُغلقة للرئيس عبد الناصر فقام بتسليمها إلى السادات دون أن يعلم محتواها؛ وكانت الرسالة تحتوي تهديدًا لعبد الناصر، فتم إلقاء القبض عليه وإلقاؤه في السجن ما يقارب العامين، ثم تم الإفراج عنه بعدها، فعاد للعمل في روز اليوسف بعد أن خضعت للتأميم، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة صباح الخير؛ وانضم إلى التنظيم السياسي الوحيد آنذاك، وهو التنظيم الطليعي الذي كان له في تلك الفترة نفوذ كبير. عقب وفاة الرئيس عبدالناصر وصراع السلطة الشهير بين الرئيس السادات وعدد من مسئولي النظام المحسوبين على التيار الذي انتهى باستقالة هؤلاء واعتقال السادات لهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب، كان اسم السعدني ضمن المشاركين، فتمت محاكمته أمام محكمة الثورة التي أدانته وحكمت بسجنه، وفي تلك الفترة حاول الرئيس الليبي السابق معمر القذافي التوسط له عند السادات، إلا أن الرئيس رفض قائلًا أن السعدني قد أطلق النكات عليه وعلى أهل بيتيه "ويجب أن يتم تأديبه ولكني لن أفرط في عقابه"، ليقضي قرابة العامين في السجن حتى تم الإفراج عنه، وصاحب هذا الإفراج قرار جمهوري بفصله من صباح الخير ومنعه من الكتابة، ومنع ظهور اسمه في أية جريدة مصرية حتى في صفحة الوفيات، فقرر السعدني مغادرة مصر والعمل في الخارج. في بيروت استطاع السعدني الكتابة بصعوبة في جريدة السفير، وتقاضى أجر يقل عن راتب الصحفي المبتدئ، حيث كان أصحاب الصحف اللبنانية يخشون غضب الرئيس السادات، فغادر السعدني بيروت قبل اندلاع الحرب الأهلية متوجهًا إلى ليبيا للقاء القذافي، والذي عرض عليه إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت، لكنه رفض ذلك خوفًا من اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين، والذين سيرفضون تواجده الذي يُشّكل تهديدًا لتجارتهم؛ ثُم تحدث السعدني بسخرية كعادته، وبدون قصد، عن جريدة القذافي الأثيرة "الفجر الجديد" عندما عرض عليه القذافي الكتابة فيها، واصفًا إياها بال"الفقر الجديد"، فلم يُبد القذافي حماسًا كبيرًا لإصدار مجلة 23 يوليو التي اقترح السعدني إصدارها في لندن، بل سخر من فكرة إصدارها هناك، كما لم يرق له إصدار مجلة ساخرة؛ لينتهي اللقاء الذي سافر السعدني بعده إلى أبو ظبي عام 1976. وصل السعدني إلى أبوظبي للعمل كمسئول عن المسرح المدرسي في وزارة التربية والتعليم الإماراتية، لكن يبدو أنه لم ترق له الفكرة، فقبل بالعرض الذي تقدم به عبيد المزروعي وهو إدارة تحرير جريدة الفجر الإماراتية، والذي كان مقامرة سياسية جازف بها المزروعي، خاصة أن السعدني وضع شروطا مهنية قاسية أهمها عدم التدخل في عمله، وهو الشرط الذي تسبب بعد أقل من أربعة أشهر بمصادرة أحد أعداد الجريدة من الأسواق بسبب مانشيت أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي؛ وكانت إيران في ذلك الوقت تطالب بالإمارات مُعتبر إياها من ملحقيات إيران، ولم تنسى السفارة الإيرانية للسعدني الشعار الذي وضعه للجريدة "جريدة الفجر جريدة العرب في الخليج العربي" لتطلب صراحة حذف صفة العربي عن الخليج لأنه "خليج فارس" حسب قولهم؛ كما أنه تعاقد مع منير عامر الصحفي بمجلة صباح الخير، ليتولى وظيفة سكرتير التحرير، فأدخلا إلى صحافة الإمارات مدرسة روزاليوسف الصحفية، بكل ما تتميز به من نقد مباشر وتركيز على الهوية القومية، والابتعاد قدر الإمكان عن التأثير المباشر للحاكم وصانع القرار، حتى ازدادت الضغوط الإيرانية على حكومة الإمارت، ليضطر السعدني إلى مغادرة أبوظبي إلى الكويت، حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الصحفي أحمد الجار الله، وعادت الضغوط تلاحقه هناك أيضًا، فغادر إلى العراق ليواجه ضغوط جديدة بشكل مختلف، عن طريق ممارسات الموظفين العراقيين العاملين في شئون مصر بالمخابرات العراقية، والذين مارسوا ضغوطًا كبيرة عليه لإخضاعه، فكان قراره بعد لقاء مع نائب الرئيس العراقي في تلك الفترة صدام حسن بمغادرة العراق إلى لندن. عادت فكرة مجلة 23 يوليو مرة أخرى إلى السعدني عند وصوله لندن، واستطاع هذه المرة تنفيذها بتمويل غير مُعلن من حاكم الشارقة بالاشتراك مع محمود نور الدين ضابط المخابرات المصري المنشق على السادات، وفهمي حسين مدير تحرير روز اليوسف الأسبق ورئيس تحرير وكالة الأنباء الفلسطينية، وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين، وكانت أول مجلة عربية تصدر هناك، وحققت نجاحًا كبيرًا في الوطن العربي وكان يتم تهريبها إلى مصر سرًا، والتزمت المجلة بالأفكار الناصرية، وكان السعدني يتوقع أن تلقى دعمًا من الأنظمة العربية ولكن ذلك لم يحدث، بل تمت مُحاصرتها ماليًا من أنظمة العراق وليبيا وسوريا، حتى أن السعدني سخر من ذلك قائلًا "كان يجب على أن أرفع أي شعار إلا 23 يوليو لأحظى بالدعم"، وتوقفت المجلة، ولكن السعدني بقى في لندن إلى أن تم اغتيال أنور السادات في حادث المنصة الشهير؛ فعاد إلى مصر واستقبله الرئيس الأسبق مبارك في القصر الجمهوري بمصر الجديدة، ليطوي بذلك صفحة طويلة من الخلاف مع النظام. تميز أدب السعدني بالنقد اللاذع والسخرية الشديدة، وتعتبر مذكراته"الولد الشقي" من أروع ما كتب من أدب السيرة الذاتية في الأدب العربي، وتم نشرها في سلسلة كتب في الفترة من نهاية الستينات وحتى منتصف التسعينات) وحملت عناوين فرعية "طفولته وصباه في الجيزة"، "قصة بداياته مع الصحافة"، "الولد الشقي في السجن"، "الولد الشقي في المنفى"، و"الطريق إلى زمش" الذي يحوي ذكرياته عن أول فترة قضاها في السجن في عهد عبد الناصر. كذلك للساخر الكبير العديد من الكتب التي تناولت مواضيع متنوعه منها "مسافر على الرصيف" الذي حكى فيه عن بعض الشخصيات الأدبية والفنية التي عرفها، "السعلوكي في بلاد الإفريكي" وكان رحلات إلى أفريقيا، الموكوس في بلد الفلوس" عن رحلته إلى لندن، "رحلات أبن عطوطه" عن رحلات متنوعة، "حمار من الشرق" وحمل وصف ساخر للوطن العربي، ورواية "قهوة كتكوت". توفي السعدني يوم الثلاثاء 4 مايو 2010 عن عمر يُناهز الثانية والثمانين إثر أزمة قلبية حادة.