فرق «صيد المارة» استخدمت «الخطاطيف» لصيد البشر وأكلهم في الطرقات عجز الخليفة المستنصر أمام الوباء، ولم يستطع السيطرة على أملاكه بل أصابه من الفقر أكثر مما أصاب مواطنيه، فالخليفة الأغنى على مر التاريخ باع تراث آبائه ومقابرهم وكنوزهم، ويئس الناس من زيادة منسوب النيل الذي ازدحم بجثث المصريين وهياكلهم آنذاك، فهاجر من استطاع الهجرة منهم إلى العراق والشام. يؤكد المؤرخ عبداللطيف البغدادي، أن «المستنصر» حاول مواجهة الأمر بأشد وسائل العقاب ردعًا دون فائدة فكان يأتيه طفلًا مشويًا في وعاء ويخبره الحرس بأن والديه كانا يستعدان لأكله فيأمر بإعدامهما حرقًا. وتابع البغدادى أن في هذا الزمان أصبح القوى يؤكل ويُطهى استعدادًا للعشاء، فما بالك بالضعيف، فكان وزير البلاد لا يستطيع تأمين نفسه وقتها ولم يكن يمتلك إلا بغلا واحدا وغلاما، حيث عهد للأخير بحراسة البغل، فتعرض له لصوص يحاولون سرقة «البغل» فلم يستطع مواجهتهم، وعندما علم الوزير بما حدث أمر بالقبض على اللصوص وإعدامهم شنقًا في حديقة منزله، وعندما استيقظ صباحًا وجدهم «هياكل عظمية» وقد أكلهم الجوعى والفقراء من أهل البلد. فيما أضاف البغدادى أن مع اختفاء الحيوانات المستأنثة والمتوحشة والضالة، لجأ الناس لخطف الأطفال وأكلهم، وحيث ذكر المؤرخون أن قوات الأمن حينها أمسكت بمئات من البشر معهم صغار مطبوخين أو مشويين، وأذا سُئل عنهم يقولون «أبناءنا» ظنًا منهم أن يفروا من المحاسبة، فيما كان يأمر الخليفة وقتها بإعدام من يعثر معه على جثث أطفال مطبوخة بالحرق حيًا، ومن الغريب أن الناس كانوا من شدة الجوع لا يتعظون ويأكلون من الجثث المحروقة. ويتابع المؤرخ الكبير أن في بداية دخوله مصر وجد امرأة تمسك بها الشرطة ومعها طفل مطبوخ ومأكول نصفه، ولم ينظر إليها الناس، وكأن الأمر مألوف ولا يثير فزع أحد، وعند معرفة الخليفة بأمرها قالت «إن زوجها بالجيش وينتظر مولده الذي تحمله» فتركها الخليفة حتى تلد، إكرامًا لزوجها. فيما يروى قصة أحد الأطباء الذي أخبره أن الناس كانوا يقومون بحيل لجذب الأطباء لبيوتهم ثم أكلهم، قائلًا: «جاءنى صبى يدعى إصابة أبيه بأحد الأوبئة وبكى لى حتى أنقذ أبيه، وما أن دخلت البيت وجدت الأب في تمام الصحة وحوله أبنائه مستعدين بالحبال وب«قدر» مملوء بالماء المغلى لأكلى وهربت بأعجوبة. وذكر أن جامع ابن طولون بالسيدة زينب كان ملجأ لبعض الناس الذين يعدون الخطاطيف - أحبال مربوطة بخطاف للصيد - ويتسلقون باب الأسوار بجانب باب زويلة ليصطادوا المارة ويقعدوا ليأكلوا لحمهم نيئًا أمام الناس وبعيدًا عن متناول أيديهم حتى لا يشاركهم أحد في الطعام، وتدريجيًا أصبح الأمر عاديًا ولا يثير دهشة أحد فأصبح الناس يأكلون بعضهم علانية. وتابع البغدادي، أن الفقر دفع الناس وقتها لبيع «الأحرار» وكانت الجارية الحسناء تباع برغيف خبز، مضيفًا أن امرأة سألته يومًا أن يشترى ابنتها ب5 دراهم فقال لها «حرام»، فقالت خذها هدية، حتى لا تؤكل فأنا لا أستطيع حمايتها، متابعًا أن العديد من الناس استغلوا حاجة الناس وأصبحوا أثرياء لتجارتهم في القمح والعبيد أو لموت جميع أهلهم وورثهم ثروات. ومع توالى الأحداث من سيئ إلى أسوأ سقطت دولة المستنصر وخرجت العديد من البلاد من سلطانه فقتل «البساسيري» في العراق وعادت للخلافة العباسية، ولم تعد مكة والمدينة تخطب خطبتها للمستنصر واستبدلته بالخليفة العباسى واستقلت «صقلية» عن حكمه، وتداعى حكمه في بلاد الشام واستقلت طرابلس وحلب وبيت المقدس ودمشق. الخروج من الأزمة كان يحتاج عاملين، عامل إلهى برجوع النيل لجريانه، وعامل بشرى بعودة النظام والأمن والأمان، وحاول الخليفة المستنصر الاستعانة بقوة عسكرية قادرة على إعادة النظام والاستقرار للدولة المصرية التي تمزقت بفعل انشقاق الجيش والويلات المتتالية، وبالفعل أرسل ل«بدر الجمالي» والى عكا والمملوك الأرمانى وطلب منه المساعدة في لم شمل البلاد التي تمزقت، ووافق بدر بشرط أن يستعين بمن يريده من رجال من عسكر الشام بدلًا من جيش الأتراك والمغاربة والسودانيين في مصر. وما أن جاء بدر الجمالى إلى مصر حتى بدأ بتطهيرها من بعض الأشخاص الذين كانوا يشعلون فتنًا داخلية للثورة على الخليفة في مذبحة عرفت ب«مذبحة الجمالية»، ونجح في فرض الأمن إجباريًا في العاصمة ثم امتد يد جنوده لباقى المحافظات والأقاليم وبدأ في تنفيذ مجموعة من القوانين الرادعة أعاد بها نفوذ الخليفة لجميع أنحاء البلاد، وساعده هلاك الصعاليك والوافدين المتسببين في تلك العادات وبقاء المصريين الأصليين الذين كانوا يترفعون عن تلك الممارسات. من جانب آخر بدأ الجمالى - الذي نسبت إليه منطقة الجمالية بالقاهرة - في تنظيم شئون الدولة التي تفتت وبدأ يجمع الأحياء من الفلاحين ويعيدهم لأراضيهم تزامنًا مع عودة مياه النيل لجريانها وأصلح الترع والمجارى المائية التي ملأتها الجثث ومع انتظام الزراعة عادت الحبوب الغذائية للظهور وبدأت الأسعار في الانتظام، ومع انتشار الأمن بدأ التجار يأتون لمصر من كل مكان. ومع الاستقرار اتجه الجمالى لإصلاح ما تهدم من أسوار القاهرة ومساجدها ومبانيها ومن القاهرة للإسكندرية لباقى الأقاليم نجح في إعادة يد الدولة في كل شبر من المحروسة بما حمله من تفويض من الخليفة ليتحمل مسئولية وزارة مصر ويصبح وزيرها الأول، الأمر الذي لاقى ترحيبًا من الشعب لشعورهم بأنه من أنقذهم وخرج الشعب في الشوارع وقتها مؤيدين له قائلين «ولقد نصركم الله (ببدر) وكنتم أذلة». وتلاشى دور الخليفة المستنصر تدريجيًا وبدأ عصر جديد سمى بعصر «نفوذ الوزراء» ومع وفاة المستنصر أصبحت مصر تحكم بالوزراء الأقوياء وبدأ عصر جديد في تاريخ الدولة الفاطمية في مصر، وانتهت مأساة كادت أن تمحوا مصر من على خريطة الدنيا. من النسخة الورقية