بيتنا على ناصية شارع سيدي الحلي.. أول الشارع كورنيش النيل وآخر الشارع مقام سيدي الحلي.. كنت أنتظر قدوم عم علام و أحب الجلوس معه كان يأتي في موعد ثابت ليزور أخته وهي أمي و يجلس مع أبي.. عم علام طويل القامه يرتدي جلباب وعمامة.. ما أن شاهدته حتى جريت إلى داخل الشقه لأخبر أمي و أصعد إلى سطح حيث يجلس أبي.. السطح يطل على قلعة محمد علي من جهه وعلى الأهرامات من جهه الأخرى وإنما أبي ينفرد بنفسه فوق السطح .. يصمت أكثر مما يتكلم وينظر طويلاً تجاه بيوت القاهرة.. السطح مزرعة الفقراء.. حمام الغية الخاصه "بسبرتو" .. عشة الدواجن الخاصه "بأمي".. الخروف الخاص "بالأضحية" .. ألهو وحدي على السطح اعتماداً على وجود أبي ورغم وجود عشر شقق في البيت بعشرة عائلات إلا أنهم يتركون ليل السطح لأبي الذي ينام على الكرسي بجوار السور.. أصوات الحمام و الطيور كحلقة تسبح في سماء صافيه .. أضوائها متباعده صفراء.. كان أبي خجولاً لا يطلب خدمات من أحد .. كانت أمي تحب خدمته بلا طلب.. عم علام يأتي من ناحية سيدي الحلي يتجاوز المراجيح و أهالي الغجر وهو يحمل بندقية على كتفه كأن يسير بلا تمايل .. يسير كأن الشارع يسحبه .. رقبته السمراء و عمته البيضاء وشاربه المعين وعينيه الصغيرة السوداء اللامعه .. كانت أهالي الشارع تتابعه في إحترام .. يرد على تحياتهم يإبتسامه وقوره .. يسلم على أخته و يصعد إلى إبن عمه فوق السطح .. يجلس على كرسي صغير أمام والدي و براد الشاي بينهما يدخن عم علام سجائر لف.. يضع البندقية بجواره.. لكنته الصعيدية التي تختلف عن لكنت والدي الذي يمزج اللكنه الصعيديه بالقاهرية.. يلتفت عم علام إليا يطلب مني كتابة جواب.. ينظر إليا أبي و أنا أحضر الكراسه والقلم الرصاص.. ينظر عم علام إلى القلم في تحذير حتى لا ينكسر السن.. دائماً يحذرني و دائماً ينكسر السن.. كنت أخفي خوفي من كلمات عم علام الصعبه و من كلمات والدي.. يتحدثان أمامي بجمل صعبه المفروض كتابتها .. سرعة عم علام شديدة كنت أكتب بلا توقف .. (سلم على عمتك "رجاء" ألف مليون سلام و جولها بتك محجوزه للواد ابني وأوعي تفرطي في مفتاح الجنينه لحد لحسن "أبو العنين" هيطلع على السجر .. و جهزي زياره كبيره من مجاميعه يومين و أجي أخدها و أطب تاني على مصر .. أخوكي "محمد" بيسلم عليكي أهو جاري بيضحك ) يرد والدي في لحظات ("علام" زعلان على تأخير الرد يا "رجاء" و أنا عن نفسي موافق على أبنه مالكم في إيه؟ لو جوزك "أبوالسيد" مالوش غرض للواد يقول ) ينظر علام إلى جوز أخنه ( أحنا ناخد بنت الباشا في بيت الأصول سلمي على الحبايب كلاتهم ألف مليون سلام و إعملي حساباتك مولد الشيخ ناصر جرب .. جهزي المطلوب يا نكتب الكتاب يا نفضها سيره .. مرات أخوكي بتسلم عليكي ألف مليون سلام و عايزه الكشك و العيش الشمسي و خريطة الملوخية . و السلام ختام و ليس بينا ختام .. أخوكي محمد عوف و أبنه ناصر ) .. يلتفت عم علام إليا في قوه .. ( إسمك إيه يا ناصر ) فأجيب بباقي أسمي و هو يبتسم في وقار ( شاطر يا ولدي هات الجواب لما أشوف كتبت إيه ) .. ينظر عم علام إلى حروف الجواب و هو لا يقرأ ولا يكتب و رغم ذلك يشير إلى كلمة "نفضها" و يسألني ( إيه الكلمة دي ) فأجيب و أنا أحاول تذكرها فيهز رأسه في صمت حتى أرفع صوتي ( نفضها , نفضها , نفضها ) يضحك عم علام و أبي و أنا .. أكاد أطير من الفرحه لتذكري الكلمة رغم صعوبتها عليّ أبي يمسك بي و أنا أحاول الإفلات حتى يرق لي و يقرر السماح بالذهاب معه .. يسير تجاه سيدي الحلي حتى ميدان روض الفرج .. يتوقف الترماي . ينطلق بنا إلى ميدان العتبة .. حيث يتوقف عم علام أمام وكالة لها باب خشبي سحري لم أدخله يوماً .. كنت في الإعدادية و أحب مدرستي و أحب توصيلها كل يوم إلى بيتها كانت مدرستي في نهائي أداب قسم إنجليزي .. أحببت إنجليزي بسببها كانت تهتم بي لأني أشبه والدها الذي توفى و كنت أحب وجهها الخمري و لفتاتها الرائعة .. عم قاسم يائع الجيلاتي كانت تحب الجيلاتي بطعم الزبادي و أنا أحب الجيلاتي بطعم المانجو .. كانت الساحه أمام دكان عم قاسم ساحة حب لطلاب ثانوي و إعدادي و كنت أعشق الوقوف أمامها في الفصل أتابع كل حركة من حركاتها .. أعشقها و أغير عليها من زملائي .. فوجئت بأبي داخل الفصل يطلب مني الذهاب معه إلى العتبه .. ( مات عمك علام ) خرجت مع والدي و أنا شارد لا أرى سوى بندقية و شارب و عين عم علام .. الوكالة ضخمة تمتلئ بالقبب المهيبه و عم علام يجلس على كنبه خشبيه بلا روح و التجار حوله يتهامسون تجاه أبي الذي يقرر أن يسافر به إلى سوهاج .. ما الفارق بين الحي و الميت ؟ عم علام هو نفس الوجه و العينين ينظر بلا صوت يجلس بيني و بين أبي على كنبة التاكسي لا يتحدث أبي كعادته ولا يتحدث عم علام الذي فارق الحياه .. لم أعرف كيف جائتني القوه لكي ألمس البندقية التي في حضنه لمست كفه النحيف المليئ بالخطوط .. ينطلق التاكسي وسط الليل و صوت الريح .. و رفعت وجهي إلى عم علام أنادي عليه .. لاحظت الخطاب الذي كتبته يظهر من جيبه .. سحبت الخطاب و فردت الورقه و قررت قراءة الجواب حتى كلمة ( نفضها ) رفعت وجهي و صوتي إلى عم علام و أنا أذكر ( نفضها ,نفضها , نفضها ) لاحظت لامعة عين عم علام كأنه حي .. رأيت بسمته الوقوره و هو يكرر الكلمة في تشجيع .. ( نفضها ) يتوقف التاكسي على باب القرية التي خرجت كلها نساءاً و رجالاً .. يشق صراخ عمتي "رجاء" الفضاء .. بينما يرفع أبي و الرجال جسد عم علام .. جريت لأرى عينه وسط أهالي القرية و أتابع صمت الوجوه و جلاها .. يمر صندوق النعش بينهم و كي ينظر أهل سيدي الحلي إلى عم علام بوقار .. ينظر أهل الكوامل إلى مرور جثمان عم علام بنفس الوقار .. جريت بعيداً عنهم لأفتح ورقة الجواب لأكتب على ظهرها جواب لعم علام .. ثم أعود إليهم و هم يدفنون جثمانه داخل التربه و دون أن يلاحظني أبي رميت الجواب داخل التربة ليستقر الجواب في حضن عم علام الذي توارى تحت التراب و أنا أحلفه في سري ليقرأ جوابه تمت بحمد الله