أهملت البحث عن تاكسي. فضلت السير - متأملا - من ميدان محطة الاسكندرية باتساعه وزحامه والشوارع الكثيرة المتفرعة منه. خلفت مبني هيئة التليفونات إلي شارع شريف ذي الطابع الأوروبي. النوافذ الخشبية العالية والشرفات ذات القواعد الرخامية المتجاورة والدعامات علي شكل مقرنصات وتماثيل لبشر وحيوان من الرخام أو الجبس والرسومات والزخارف الجصية والنقوش والثقوب الطويلة. طالعني ميدان المنشية.. إلي يساري ساحة. كان يشغلها مبني البورصة. واجه عبدالناصر في شرفته رصاصات محاولة الاغتيال وأعلن - في الشرفة نفسها - قرار تأميم قناة السويس. ملامح الميدان المميزة: تمثال محمد علي والكنيسة الانجيلية والنخيل الملكي والحدائق الصغيرة ذات الأسوار ومكتبة دار المعارف ودكاكين الطعام والملابس والبضائع المنزلية والمقهي وانفاس البحر تترامي عبر طريق الكورنيش والشوارع الجانبية المفضية إلي قلب المدينة. اتجهت إلي شارع فرنسا - كم يبدو ضيقا بالقياس إلي تصور أيام الطفولة والصبا - وكالة الأوقاف ومحال الصاغة وجامع سيدي خضر وجامع تربانة ومستوصف الصحة - خضت في عام 1947 زحاما لأحصل فيه علي طعم الكوليرا - مكتب التليفون والتلغراف. اتذكر البرقية التي كلفني أبي بارسالها إلي أهل أمي في دمنهور: خديجة توفيت. البناية التي كانت - قبل هدمها - كتَّاب الشيخ أحمد. ألحقتني أمي به للتخلص من شقاوتي وان كنت - فيما روت لي - أعود قبل أن ينتصف النهار لأطلب ساندوتش فول. كان الفول خير ما أحبه - ولازلت - من الطعام. اقتربت من شارع إسماعيل صبري بالتحديد البيت الذي يطل علي الشارع والشارعين المتقاطعين: رأس التين وفرنسا. ويطل سطحه علي الميناءين الشرقي والغربي وساحل الانفوشي. استعدت حكايات السيد الرويعي في دكانه المقابل للبيت. يهلل لرؤيتي ويترحم علي أبويَّ ويسأل في تأثر: أين يذهب الجميع؟! أعددت في ذهني اسئلة تشغلني اجوبتها عن الذين رحلوا بالسفر وبالموت وعن الموالد وسوق العيد في ميدان الخمس فوانيس وخطب الشيخ عبدالحفيظ إمام جامع سيدي علي تمراز قبل عشرين عاما وعن التفصيلات الصغيرة التي أضافت إلي صورة الحياة في الحي وحذفت منها. سألت العامل في حلواني الطيبين المجاور عن الستارة الحديدية المسدلة علي باب دكان الرويعي. مص شفتيه: -البقية في حياتك! السيد الرويعي هو آخر من يعرفني من حرفيي الحي وباعته. وعت طفولتي عليه. وحاك لذكور أسرتي ملابس العيد وجلس إلي أبي في مقهي المهدي أسفل البيت. رحلت إلي القاهرة بينما اتصلت حياته في المكان فلديه ما يرويه. عانيت الارتباك فلا أحد يعرفني. لما تابع عامل حلواني الطيبين نظراتي إلي شقة الطابق الثالث حذرني بلهجة يخالطها ضيق: - خليك معايا يا أستاذ! قلت كأني أدفع تهمة: - هذه كانت شقتي! ملت إلي شارع فرنسا.. فقدت الرغبة في التأمل والتذكر والاستعادة. نفضت رأسي بالسؤال: هل أعود ثانية؟