العشاء الأخير طبقًا للعهد الجديد، هو عشاء عيد الفصح اليهودي التقليدي، وكان آخر ما احتفل به يسوع مع تلاميذه، قبل أن يتم اعتقاله ومحاكمته وصلبه، ويعتبر هذا الحدث شديد الأهمية، إذ تأسس به سر القربان وقدّم فيه يسوع خلاصة تعاليمه. ويعتقد غالبية الناس عندما يتم الحديث اليوم عن العشاء الأخير، أن هذا العشاء قد تم حول المائدة حيث جلس المسيح في وسط الطاولة وانقسم حواريوه جالسين حوله على الكراسي ستة من كل جانب، ولربما العديد منا يذكرون اللوحة المشهورة للفنان ليوناردو دافنشي "العشاء الأخير". إن هذه الوضعية للجلوس هي ما نألفه نحن اليوم في عصرنا الحديث؛ لكنها ليست الطريقة التي كانت مألوفة في زمن المسيح. في الحقيقة فإن الطريقة التي أُقيم فيها العشاء الأخير تختلف اختلافًا كاملًا عن الصورة التي رأيناها، فلم يجلس يسوع وتلاميذه هكذا على الكراسي حول طاولة؛ لكنه اتكأ على الأرض أو على حصيرة، وكانت العادة أن يميل الشخص بجسده نحو اليسار متكئًا على كوعه، ويأكل باليد اليمنى، أما الأرجل فكانت ممدودة إلى الخلف. هذه كانت العادة التقليدية لتناول الطعام في العالم اليوناني الشرق أوسطي القديم، وهذا يظهر واضحًا في إنجيل مرقس: "وفيما هم متكئون يأكلون قال يسوع الحق أقول لكم إن واحدًا منكم يسلمنى لآكل معي" (14:18)، وعندما نفهم هذا الأمر نستطيع أن نفسر بعض الأحداث التي جرت في الإنجيل التي قد تبدو غريبة بالنسبة لنا اليوم. هناك مشهد آخر غريب نفهمه بصورة أوضح، إذا فهمنا وضعية الجلوس هذه، حين اتكأ يسوع في بيت الفريسي ليأكل وابتدأت امرأة بدهن رجليه بالطيب، ( لو 7: 38)، بمفهومنا اليوم عن عادة الجلوس حول الطاولة، هذا الأمر يعني أنها جلست تحت الطاولة! لكن بوضعية الجلوس في العالم القديم فإن الأرجل تكون ممدودة للخلف، وهكذا تغسل المرأة أرجله من الخلف. وبالنسبة لمكان جلوس يسوع حول المائدة، فمن المقبول اليوم أن ضيف الشرف يجلس على الطاولة، إما في الوسط أو في نهاية الطاولة (على الرأس). التوضح لأيقونة من قبل متخصصين: ولكي نفهم حقيقة اللوحة، والتي بنى عليها دان براون، ومن اعتمد على فكرهم، محور روايته، جيدًا، يجب أن نرجع إلى العلماء المتخصصين ومؤرخي فن الرسم وما كتبوه عنها، لكي تكون لدينا صورة واضحة بعيدًا عن التلفيق والتزوير والادعاءات الكاذبة. (1) الرسم التخطيطي الذي رسمه ليوناردو للوحة: اعتاد ليوناردو دافنشي قبل رسم أي لوحة أن يعمل لها رسمًا تخطيطيًا "كروكي"، يضع فيه تصوراته عن محتوى اللوحة وما يفكر فيه من جهة الأشخاص الذين كان عليه أن يرسمهم في اللوحة، وقد احتفظ لنا المؤرخون الذين أرخوا لفن الرسم بالرسم الكروكي الذي رسمه ليوناردو دافنشي لهذه اللوحة الذي حدد فيه اسم كل شخصية من شخصيات اللوحة، ومنها شخصية يوحنا الذي كتب اسمه على رأس الرسم التخطيطي له في اللوحة!! ومن هنا كانت أسماء الشخصيات مكتوبة على اللوحة، كما جاءت في الرسم التخطيطي لها، وكما أكد ذلك العلماء والمؤرخون عبر تاريخ اللوحة، وهذا في حد ذاته كافٍ لتحطيم كل نظريات دان براون، التي بناها على خيال أوهام من سبقوه! (2) موضوع اللوحة كما خطط له ليوناردو: يقول هؤلاء العلماء والمؤرخون: لقد رسم ليوناردو دافنشي هذه اللوحة فيما بين سنة 1495 و1498م على حائط حجرة الطعام في كنيسة سانتا ماريا دي ليجراز Santa Maria delle Grazie بميلانو بإيطاليا، وكان موضوعها الجوهري هو تصوير رد فعل تلاميذ المسيح الاثنى عشر عندما أعلن لهم أن واحدًا منهم سيسلمه: "الحق الحق أقول لكم أن واحدًا منكم من سيسلمني" (يو13:21). ولكي يجعل الصورة متوازنة قسم دافنشي التلاميذ الاثنى عشر إلى أربع مجموعات، تتكون كل مجموعة من ثلاثة تلاميذ، ووضع مجموعتين منها على كل جانب من جانبي يسوع، أي ستة تلاميذ على كل جانب في مجموعتين، وكانت المجموعة التي عن يمين المسيح هي التي لعبت الدور الأهم في رواية دان براون "شفرة دافنشي". فعلى يمين المسيح نجد ثلاثة من التلاميذ؛ هم يوحنا ويهوذا وبطرس، هذا التجمع الثلاثي تكون من ميل بطرس للأمام ليطلب من يوحنا أن يسأل عن الخائن الذي سيسلم الرب، "فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه" (يو13:24)، ثم انحناء يوحنا تجاهه ليسمع سؤاله وجاء يهوذا بينهما.. يقول الإنجيل: "فاتكأ ذاك (يوحنا) على صدر يسوع، وقال له يا سيد مَن هو؟ أجاب يسوع هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الاسخريوطي" (يو13:25 و26). وهنا يصور دافنشي يهوذا يقبض بيده على صرة نقود في يده اليمنى، مشيرًا إلى قوله: "إذ كان الصندوق مع يهوذا"، (يو13:29)، كما يصوره وهو يحوم بيده اليسرى على قطعة خبز على المائدة، حيث يلمح ليوناردو بوضوح لقول المسيح: "الذي يغمس يده معي في الصحفة (الطبق) هو يسلمني"، (مت26:23). وهذا ما توضحه اللوحة في القطاع المأخوذ منها في الصورة المجاورة والمأخوذة من اللوحة قبل الترميم. (3) هل خلت اللوحة من الكأس؟ بنى دان براون كل نظريته على أساس خلو اللوحة من الكأس المقدسة، فراح يزعم أن دافنشي لم يرسم الكأس في لوحته؛ لأنه كان يقصد بها مريم المجدلية، الكأس الحقيقية حسب مزاعمه وتلفيقاته، فقال: "لم يكن هناك كأس (Chalice) في اللوحة، ولا كأس مقدسة (Holy Grail) أن دافنشي يبدو وكأنه نسى أن يرسم كأس المسيح"!! فهل تعمد دافنشي ألا يرسم الكأس؟ والإجابة ببساطة كلّا، وألف كلّا، فقد رسم دافنشي الكأس المقدسة، في لوحته ولم ينس، بل ولم يتعمد عدم رسمها!! فالكأس موجودة في اللوحة!! ولكن لأن براون ومن اعتمد على كتابهما رأوا اللوحة قبل ترميمها سنة 1999م، برغم أن الكأس واضحة فيها، إلا أن علماء الكمبيوتر قاموا بتصوير النسخة الأصلية للوحة بعد الترميم وظهرت الكأس جيدًا مرسومة على العمود خلف رأس بارثولماوس في أقصى يسار الناظر للوحة. بل الأعجب والأغرب أن الصورة التي يضعها دان براون في موقعه الشخصي للوحة تظهر فيها الكأس المقدسة بوضوح، ومع ذلك فقد عميت بصيرته وبصره عنها أو أنه تجاهل ذلك، فكل شيء مباح بالنسبة لمن يفكرون على طريقته!.