مع ختام ناجح بكل المعايير ل"مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد - مصر المستقبل" أمس "الأحد" في مدينة شرم الشيخ، قدمت دار الأوبرا المصرية عبر مشاركتها في هذا الحدث العملاق إجابات مهمة على أسئلة تتعلق بالفن والمجتمع والقوة الناعمة، بقدر ما برهنت على عدم صحة مقولات ظالمة للمصريين تزعم أن سوادهم الأعظم لا يتجاوب مع الذوق الفني الرفيع. وتجلت مشاركة الأوبرا دعما لهذا المؤتمر الاقتصادي العالمي كنموذج دال لإمكانية تقديم روائع الموسيقى والغناء للشعب المصري بكل أطيافه وشرائحه، ناهيك عن الضيوف الأجانب، والارتقاء بالذوق العام للمجتمع ودحر ثقافة القبح والتلوث السمعي- البصري، فيما تتجلى صحة رهانات رئيسة دار الأوبرا المصرية ايناس عبد الدايم حول الأوبرا كمنارة ثقافية يلتف حولها كل المصريين. وأضفت فرق دار الأوبرا المصرية أجواء احتفالية من المتعة الراقية لتزيد من توهج ونجاح المؤتمر الاقتصادي، بقدر ما كانت هذه العروض الفنية تحمل رسالة مصر المبدعة بفنونها وثققافتها المتنوعة والثرية للعالم قاطبة. وقال الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته بالجلسة الختامية لهذا المؤتمر العملاق في مدينة شرم الشيخ: إن مصر موجودة منذ سبعة آلاف سنة وعلمت الحضارة للعالم أجمع، معيدا إلى الأذهان أن بعض الدول حاولت في الماضي التعلم من عظمة الشعب المصري. وشهد وزير الثقافة الدكتور عبد الواحد النبوي الاحتفالية مع عدد من المسؤولين والمثقفين البارزين، من بينهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، فيما ضم الجمهور المئات من المصريين والعرب والأجانب. وشارك في حفل الأوبرا بالمسرح الروماني في شرم الشيخ أكثر من 120 فنانا من فرق دار الأوبرا المصرية، وحظت فرقة باليه أوبرا القاهرة بإعجاب الجمهور بلوحاتها الفنية، وكذلك فرقة جورجيا للفنون الشعبية، فيما أبدعت فرقة عبد الحليم نويرة للموسيقى العربية في أغانيها الوطنية خاصة أغنية "تحيا مصر". وفي هذا السياق لفتت إيناس عبد الدايم إلى الإسهام الثقافي الفني في تنشيط الاقتصاد المصري، وقالت: "إن الثقافة والفنون تعدى دورهما مجرد الترفيه إلى المساهمة في بناء الإنسان المصري الحديث، ونوهت إلى أن نجاح المؤتمر الاقتصادي أكد مكانة مصر الرفيعة بين دول العالم وأنها قلب الأمة العربية والعالم النابض بالحضارة والتاريخ. وعبرت الأغاني الوطنية عن فرحة المصريين بهذا المؤتمر الاقتصادي العملاق، بقدر ما برهنت الاحتفالية ككل على أهمية الفن كقوة ناعمة لمصر ومدى انفتاح الثقافة المصرية وقابليتها للتواصل البناء مع كل الثقافات الأخرى في العالم. وإذا كانت الدكتورة ايناس عبد الدايم قد تحدثت عن تعظيم دور صناعة الثقافة والموسيقى وأكدت دور الفن في إنارة العقول وتنمية الوعي الثقافي لمقاومة الفكر المتطرف ومواجهة قوى الشر والظلام ودحر الإرهاب، فإن إقبال المصريين على العروض الفنية الجادة والممتعة يبرهن على سوية الذائقة العامة. وتحظى أعمال الأوبرا باهتمام كتاب صحفيين من أصحاب الاهتمامات الثقافية مثل الدكتور أسامة الغزالي حرب الذي كان قد أبدى إعجابه بعرض أوبرا "عايدة" على المسرح الكبير لدار الأوبرا معيدا للأذهان أن فن الأوبرا عريق ويرجع تاريخه في إيطاليا إلى أواخر القرن السادس عشر، فيما تمنى أن تتزايد أعداد دور الأوبرا في مصر. ويصف الكاتب الصحفي الدكتور عمرو عبد السميع الأوبرا "بالمنبر التثقيفي والتنويري رفيع المقام"، مشيدا بالعروض الرائعة للأوبرا المصرية بقيادة الدكتورة إيناس عبد الدايم أثناء الموسم الثقافي في الشتاء الحالي، معتبرا أن بعض العروض تحولت إلى "شلال من البهجة والحيوية البالغة". وشهدت ليالي القاهرة في الصيف الماضي ابداعات مصرية في الموسيقى والغناء لأسماء مثل رشا يحيي ورانيا يحيي واميرة أحمد والطفل الموهوب يحيي الهرميل ونسمة عبد العزيز ودينا الوديدي، فيما قدم الموسيقي المبدع الدكتور جمال سلامة مفاجأة سارة لعشاق الموسيقى باطلالة شارك فيها ضمن هذه الفعاليات التي شهدت إقبالًا ملحوظا وخاصة من الشباب. ويأمل بعض المثقفين اهتماما أكبر من جانب وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون بعالم الأوبرا، فيما يسترجع البعض بالحنين برنامجا تلفزيونيا عن الأوبرا كان يقدمه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي الفنان الراحل يوسف السيسي؛ أحد قادة أوركسترا القاهرة السيمفونية مع أن هذا البرنامج لم يستمر طويلا. وفي شهر نوفمبر الماضي انطلقت الحلقة الأولى من صالون "ذاكرة الطرب العربي" خلال الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان الموسيقى العربية بلقاءات فنية وعروض على الهواء لأعمال عدد من الملحنين والشعراء من بينهم زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد فوزي. واعتبرت الدكتورة إيناس عبد الدايم أن نجاح هذه الحلقة في تقديم الموسيقى العربية في قالب فني تثقيفي يحقق فلسفة دار الأوبرا في نشر الثقافة الموسيقية وقررت إقامة الصالون بشكل شهري على مسرح معهد الموسيقى العربية. ومن حسن الطالع أن الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة؛ وهو المجلس الذي يشكل عقل وزارة الثقافة أن لم يكن العقل الثقافي لمصر ككل عرف باهتمامه البحثي بالعلاقة بين الموسيقى والتاريخ وتولى الإشراف على مشروع ثقافي عنوانه: "الموسيقى والذاكرة"؛ وهو مشروع يشارك به 14 مؤرخا وموسيقيا ويمثل بحق "خروجا حميدا على النمط التقليدي في دراسة التاريخ بقدر ما ينطلق برحابة التصورات الثقافية في رحاب غير تقليدية". وإذا كانت الموسيقى لغة الشعوب في العالم والتاريخ قصة هذه الشعوب، فإن فكرة اللقاء بين الموسيقى والتاريخ تتجسد في كتاب "التاريخ والموسيقى" للدكتور محمد عفيفي؛ الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وأحد أبرز وأنجب أساتذة التاريخ الذين انجبتهم المؤسسة الأكاديمية المصرية والمؤلفة الموسيقية الدكتورة نهلة مطر التي اشتركت معه في تحرير هذا الكتاب الذي يتضمن مجموعة دراسات شيقة لنخبة من الباحثين. وفيما تبدي الدكتورة رانيا يحيي؛ كنجمة من نجوم ليالي المسرح الصيفي للأوبرا، اهتماما بإعادة صياغة العلاقة بين الموسيقى والعالم والحلم كباحثة ومحققة إلى جانب كونها عازفة موسيقية، فإن الروائي الروسي العملاق ديستوفيسكي عمد في روايته "نيتوشكا نزفانوفا" لتوظيف علاقة "الداخل الإنساني والأنغام" في هذا العمل الروائي الإبداعي، حيث يتحول "الكمان" للذات الداخلية المرجوة وتتحول الآلات الموسيقية لرموز وإذا بلغة الأنغام هي اللغة الإنسانية الأعمق. فالموسيقى والتاريخ ينتميان كمجالين ثقافيين للنشاط الفكري الإنساني ومن هنا يرصد كتاب الدكتور محمد عفيفي والدكتورة نهلة مطر العلاقة بين الموسيقى كفن وكتابة التاريخ والقضايا الاجتماعية والثقافية المتصلة بأثر الموسيقى في المجتمع المصري على مدى القرنين الماضيين، فيما يوضح الدكتور عفيفي أن الكتاب في اصله دراسة تنطلق من مدخل التاريخ الاجتماعي للموسيقى في مصر. فهو كتاب لا يعني بدراسة الموسيقى وتقنياتها وانما يهتم ويركز على المحيط، أو البيئة الاجتماعية-الثقافية التي تتعايش معها الموسيقى بقدر ما يبرز بصورة جدلية أهمية القضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة بأثر الموسيقى في المجتمع. والكتاب ثمرة لقاء ثقافي مدهش بين التاريخ والموسيقى، أو بين المؤرخين والموسيقيين ويتضمن صفحات ممتعة عن مرحلة ما بعد الحملة الفرنسية في مصر والتناول الغربي للموسيقى والتعبيرات الموسيقية عن التكوينات الطبقية في المجتمع المصري ودراسة علمية عن "فرقة حسب الله" التي ترجع جذورها لعهد محمد على، وصولا لظاهرة المطرب الشعبي أحمد عدوية كظاهرة من ظواهر التاريخ الاجتماعي للموسيقى المصرية، بقدر ما كانت الظاهرة متصلة بما عرف بعصر الانفتاح الاقتصادي منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين. وبسلاسة، يحلق الكتاب في آفاق جديدة بمعالجات غير تقليدية لقضايا تاريخية مثل لقاء الموسيقى الشرقية مع الموسيقى الغربية وانعكاسات هذا اللقاء والتواصل والتفاعل الثقافي على أذواق المصريين، ناهيك عن الحداثة وتغير المجتمع المصري. واذا كان الموسيقي الروسي الشهير فاليري جريجييف يوصف بأنه صديق الرؤساء والاثرياء ونموذج لارتباط الفنان بالسلطة في كل العهود، كما ينظر له باعتباره الفارس الذي لا يبزه أي فارس آخر على الساحة العالمية في حمل راية التراث الموسيقى الروسى، فإن قصته تعبر بعمق عن علاقة الفن بالمجتمع. عندما يقود هذا الموسيقار الذي جمع بين صداقة الرئيسين فلاديمير بوتين وديمترى ميدفيديف، الاوركسترا، فإن يده اليسرى ترفرف كما لو كانت تتلقى شحنات خفية، فيما يمسك بيده اليمنى عصا صغيرة للقيادة الاوركسترالية وسرعان ما ينتفض جسده ويتطوح مع ايقاعاته، غير أن زميله عازف الكلارينت اندرو مارينر يقول: إن كيمياء الابداع ليس مصدرها يد الموسيقار جريجييف وإنما تعتمل في عقله. والموسيقار الروسي فاليرى جريجيف قائد أوركسترا لندن السيمفونية ارتبط بعلاقة صداقة مع الزعيم الروسى فلاديمير بوتين منذ عام 1992 عندما كان مديرا فنيا لفرقة كيروف المسرحية في مدينة سان بطرسبورج، وكان قد نال بالفعل شهرة عالمية كموسيقي له شأنه، فيما كان بوتين أيامئذ لا يزيد على كونه النائب الأول لعمدة هذه المدينة وهو رجل اصلاحى يدعى إناتولى سوبشاك وكلاهما له شغفه وولعه بسان بطرسبورج، وكان بوتين بحكم منصبه كنائب للعمدة يساند بقوة الفرقة المسرحية التي يقودها الفنان فاليرى جريجيف. على النقيض من ارتباط جريجييف بالمدينة وبالتحديد مدينة سان بطرسبورج، فإن الكاتب اللبنانى حازم صاغية يرى أن أم كلثوم القادمة من ريف مصر كانت على علاقة تضاد مع المدينة تصل لحد الكراهية وإدانة القاهرة باختلاطها وتهتكها وخلاعتها يوم كانت العاصمة المصرية في مطالع القرن الماضى تفتح ذراعيها لفنانين وفنانات أجانب يتركون بصماتهم على الذوق المحلى.. لقد نمت أم كلثوم حسب قول حازم صاغية في كتاب عن كوكب الشرق، بالضد من المدينة وفى سياق من الصراع معها. وفى بدايات غربتها الطويلة بالقاهرة تعرضت أم كلثوم لما يتعرض له الريفيون البسطاء المهاجرون إلى المدن على أيدى التجار والسماسرة والوسطاء، فكان وكلاء الحفلات الغنائية يسخرون منها ومن أبيها ويبخسونهما حقهما، وحين اشترت قطعة أرضها الأولى لم تستطع أن تتملكها لأن العقد كان مغشوشا فدفعت المال ولم تحصل على ملكية في مقابله، لكنها امتلكت قلوب المصريين والعرب ككل بعد ذلك وباتت من رموز العلاقة الوثيقة بين الفن والسلطة، بقدر ما انتصرت على "ثقافة الكباريه" التي سادت في الفن لحظة مجيئها من الريف للقاهرة. إذا كان ريتشارد موريسون؛ الناقد الفنى لجريدة "التايمز" اللندنية والمتخصص في الموسيقى الكلاسيكية يقول عن علاقة جريجيف وبوتين: "ربما لا توجد علاقة وثيقة كهذه في تاريخ الموسيقى بين فنان وحاكم قوى باستثناء علاقة الموسيقار فاجنر ولودفيج ملك بافاريا، فماذا عن علاقة أم كلثوم بالسلطة؟ لم يتحدث موريسون عن علاقة أم كلثوم بالسلطة، ولكن حازم صاغية هو الذي تحدث بل وخصص لهذه القضية كتابا كاملا عنوانه: "أم كلثوم سيرة ونصا.. الهوى دون أهله". وكمصرية حتى النخاع تساهم أم كلثوم في المجهود الحربى للجيش المصرى بعد هزيمة 1967 فترأس تجمعا لهذا الغرض وتقدم بين ما تقدمه أسورة كبيرة مرصعة بالماس وعقدا هو عبارة عن سلسلة ذهبية مجدولة طولها متران وساعة ذهبية وعقدا آخر مرصعا بالماس. لكنها- كما يقول حازم صاغية - قبل جمع المساعدات وتقديمها هبت واقفة وراء المجهود الحربى وقررت أن تجوب البلاد كايزيس في محاولة للبعث وإعادة الروح، ويدفعها البعث إلى فرنسا فلا تنسى أن ترسل إلى الرئيس شارل ديجول برقية تؤكد إحساسها برسالتها وشكرها له على تأييده "العدالة والسلام". وما من شك في أن نمو الظاهرة الكلثومية سار في موازاة تطورات موضوعية لم يكن هناك بد من الخضوع لها والافادة منها، ففيما يبدو حازم صاغية في كتابه مهتما بمسألة اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة، وهى مسألة استمرت في ظل مصر الساداتية كما كانت في عصر مصر الناصرية، وها هو الرئيس المصرى الراحل انور السادات يبدو وكأنه صاحب "الخلطة السحرية" لدعاء أو أغنية دينية اقترنت بشهر رمضان وهى أغنية "مولاى". كانت "مولاى" واحدة من أربعة موشحات أو أدعية دينية شارك فيها الثلاثى بليغ حمدى كملحن وسيد النقشبندى كمنشد وعبد الفتاح مصطفى كشاعر، وحملت الموشحات الثلاثة الأخرى عناوين: "أقول أمتى.. ويارب.. ولا إله إلا الله"، لكن أنشودة "مولاى" هي التي استأثرت بالقدر الأكبر من الإعجاب وظلت تزداد سحرا بمرور الزمن وتفيض العيون دمعا كلما انساب صوت الشيخ سيد النقشبندى بكلمات عبد الفتاح مصطفى التي لحنها بليغ حمدى.. ووصف هذا التعاون بين الملحن والمنشد والشاعر بأنه "خلطة سحرية كان يقف خلفها الرئيس الراحل انور السادات". يلاحظ حازم صاغية في كتابه عن أم كلثوم وجود صلة وثيقة بين بعض المشائخ والمنشدين الدينيين والموسيقى ويقول: إن ما عزز هذه الصلة هو أن أولئك الذين يبرعون في اصواتهم عند إلقاء الاناشيد الدينية هم الذين تراودهم فكرة الاستمرار في الصنعة، فرأينا أبرز المشتغلين بالغناء والموسيقى في القاهرة مطالع القرن العشرين وفى نصفه الأول مشائخ أزهريين؛ أهمهم يوسف المنيلاوى وأبو العلا محمد، ومن بعدهما زكريا أحمد والقصبجى، أو متفرعين عن عائلات فيها مشائخ ورجال دين.. يبدو واضحا أن الشيخ سيد النقشبندى ينتمى لهذه السلالة المبدعة والتي تجيب بطريقتها عن علاقة الفن بالمجتمع والسلطة. وعن علاقة الفن والسلطة، يفصح فاليرى جريجيف لأرثر لوبوف المحرر بنيويورك تايمز عن رأى غريب، فهو يرى أن كوادر السلطة السوفييتية لم تكن غبية ورغم أن المضايقات التي تعرض لها فنانون مثل بروكوييف وشوستاكوفيتش، فإنها كانت تدرك جيدا أن هذين الفنانين بالتحديد هما سيدا الإبداع الموسيقى في الاتحاد السوفييتى وقامتان لا يمكن الاستغناء عنهما أو اسكاتهما، ولكن المطلوب تخفيف حدة الانتقادات المبطنة في إبداعات بروكوييف وشوستاكوفيتش أو ترويضهما ليكونا أكثر استجابة لرغبات النظام. هكذا تؤثر السياسة في الموسيقى والعكس صحيح، سواء في روسيا أو مصر شأنهما شأن أي بلد، ويقول حازم صاغية في كتابه عن م كلثوم: يرتب اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة وادراج ام كلثوم في التاريخ الثانى مقدمة التماثل بين الشعب وصوته، ولا يلبث تماثل الهوية أن يتقدم في خط مستقيم استقامة الذات القومية حين ترى إلى نفسها، فتغنى أم كلثوم بين ما تغنيه نشيد مصر الوطنى "والله زمان يا سلاحى" في عام 1956 والذي أصبح أحد النشيدين العربيين للناصرية.. ولأنها تعبر عن مصر وامتداد لدورها العربى غنت لشعراء عرب من سائر البلدان.. فمن السودان غنت للشاعر الهادى آدم "أغدا ألقاك"، ومن سوريا غنت لنزار قبانى "أصبح عندى الآن بندقية"، ومن لبنان غنت لجورج جرداق "هذه ليلتى"، ومن السعودية غنت لعبد الله الفيصل "من أجل عينيك". ولم يغب عن ام كلثوم البعد الإسلامى لمصر ذات الدوائر الثلاث في عرف جمال عبد الناصر، فغنت من باكستان "حديث الروح"، شعر محمد إقبال.. واذا كانت الوحدة العربية أحد شعارات مصر في زمنها الناصرى، فقد جمعت أم كلثوم بين قلوب العرب ووحدت من كلمتهم ما عجزت عنه السياسات والادعاءات والدعايات والصحف، فالعرب لم يلتقوا من الخليج إلى المحيط في اتفاق ورضا حول أحد كما التقوا واتفقوا على أم كلثوم. وفى بلد بحجم روسيا، لا يمكن القول أن الفصل بين السياسة والموسيقى مسألة سهلة، وعندما وظف جريجيف فنه الموسيقى في خدمة السياسة الروسية أثناء حرب صيف 2008 مع جورجيا، فإنه كان وفيا لتراث طويل ولم يخرج عن النص المتعارف عليه في بلاده عن علاقة الفن بالسياسة! وفى معترك السؤال الكبير والمشروع عن علاقة الفنان بالسلطة، يعمد البعض لنفى الحقائق ومحاولة النيل من ابداع الفنان لأسباب أيديولوجية ومصالح سياسية تتعلق بالرغبة في اقصاء عصر بأكمله وبرموزه الساطعة من ذاكرة أجيال حتى لا تتكرر التجربة التي أقضت مضاجع البعض. ويقول فاليرى جريجييف: "على الأوبرا والباليه والسيمفونية أن تتنافس مع وسائل التسلية الشعبية".. نعم، فالجمهور اختلف كثيرا عما كان عليه الحال في زمن الاتحاد السوفييتى، والجمهور شغوف الآن بنجمات الاثارة بأجسادهن الساحرة والقصص التي تنسجها الصحافة الشعبية حول آخر فضائحهن! نجمات أسهم جريجييف ذاته في صنع اسمائهن اللامعة مثل انا نيتريبكو واولجا بورودينا. ويصل عدد العاملين في فرقة مارينسكى إلى 2000 شخص لتكون من أكبر المؤسسات الموسيقية في العالم وتقدم برنامجا حاشدا يتضمن الأوبرا والباليه والموسيقى الأوركسترالية، كما تقدم عروضها داخل روسيا وفى الخارج، ويحرص فاليرى جريجييف على توظيف علاقاته الجيدة برجال الكرملين للحصول على دعم مالى مستمر لهذه الفرقة الكبيرة. عندما كان فاليرى جريجييف في الرابعة عشرة من عمره توفى والده في يوم يصفه فاليرى بأنه "اليوم الأكثر حزنا في حياته"، وانصرف الفتى اليتيم ليفرغ احزانه في العزف على البيانو وتعلم من أستاذه ايليا ميوسين أن يكون صاحب شخصية مميزة ولون خاص في الموسيقى.. والأهم أنه تعلم أهمية احترام الجمهور عبر الصدق والاخلاص في الفن، وإلا فإن الجمهور سينصرف والأضواء ستطفأ. والحقيقة أن الأوبرا المصرية نجحت في الأونة الأخيرة في جذب الجمهور، فيما تسطع اضواء المسرح شتاء وصيفا على وجوه ربيعية ناضرة ومتلهفة لكل ما هو جيد وبعيد عن الاسفاف كما تجلى في احتفالية شرم الشيخ.