يبدو أن مصطلح "العثمانية الجديدة" لم يصبح مجرد تعبير للاستهلاك الإعلامي فحسب، بل أصبح واقعّا يمارس على الأرض بخطوات منتظمة تتخذ شكل المخطط الذي يهدف في أصله إلى تصفية الحسابات مع تركيا العلمانية والمبادئ الكمالية الراسخة بالبلاد لأكثر من 90 عامّا منذ إنشاء الجمهورية على يد المؤسس مصطفى كمال أتاتور وقد ظهرت عدة إشارات من مسئولين وبرلمانيين أتراك وعلى رأسهم رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في الآونة الأخيرة تدعم من هذا الاتجاه لإحياء العثمانية الجديدة، أو التي تعرف باللغة التركية باسم " yeni osmanlıcılık ". وقد أصبح محللون ومراقبون أتراك يتحدثون عن "مسألة شخصية" بين أردوغان وأتاتورك وإلا لما تم تجنب وضع صورة مؤسس الجمهورية التركية في اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الأخير للعام الماضي بالقصر الجمهوري الجديد بأنقرة في 30 ديسمبر 2014، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية منذ إنشائها، وهو ما أثار استياء وغضب شديد في أوساط الكماليين العلمانيين بالبلاد. وذكر المحللون الأتراك وقتها أنه أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي الذي ترأسه أردوغان، أثار الانتباه عدم وجود صورة أتاتورك، والتي كانت تأخذ مكانها دوما خلال أي اجتماعات للمجلس في عهد جميع الرؤساء السابقين، ولكن أردوغان قام بكسر القاعدة في تحدي صريح للكماليين بإزالة صورة الأب الروحي لهم. وفي إشارة أخرى على الترويج لعثمنة البلاد، بدأ الرئيس التركي في نهاية العام الماضي بإثارة الجدل عندما تحدث عن أن أنقرة "عازمة" على إدراج اللغة العثمانية في المناهج التدريسية الرسمية في تركيا، وشدد على هذا الاتجاه في أكثر من مناسبة، حيث انتقد في كلمة له في مجلس الشورى الديني الخامس معارضو تلك الخطوة، معتبرّا إياهم بمثابة "خطر كبير"، بحسب وصفه لهم. وفي هذا الاجتماع، تعهد أردوغان بلغة قوية بإدراج اللغة العثمانية في المناهج المدرسية "سواء شاء المعارضون أم أبوا"، وقال: "إن هناك من يشعر بالانزعاج من تعلم أبناء هذا البلد اللغة العثمانية، وبالأصل هي تركيتنا القديمة، وليست لغة أجنبية وسنتعلم عن طريقها الحقائق". وكانت اللغة التركية القديمة تكتب بالأبجدية العربية إبان الدولة العثمانية، ووجه أتاتورك فيما بعد بكتابتها بالأحرف اللاتينية عند تأسيسه الجمهورية في عام 1923، حيث فرض كثيرا من أوجه التغيير في المجتمع التركي في المجالات السياسية والقانونية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وفقا للأيديولوجية الكمالية لتحديث وعلمنة الجمهورية التركية الوليدة حينئذ، وفي عام 1929 بدأت الحكومة تفرض إجباريّا استخدام الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلا من الأحرف العربية، وبدأت الصحف والكتب تصدر بالأحرف اللاتينية وحذف من الكليات أي مناهج للتعليم بالأحرف العربية. وقال أردوغان: إن المعارضين يتهكمون على اللغة العثمانية، باعتبار الفائدة من تعلمها "تقتصر على قراءة النصوص المكتوبة على شواهد القبور"، مضيفّا: أن المشكلة تكمن في منهجية التفكير بهذه الطريقة، مبينّا أن شواهد القبور تحمل تاريخًا وحضارة، معتبرًا عدم معرفة جيل لهوية من يرقد في قبره ب "الجهل الأكبر"، بحسب قوله. وتزامنا مع هذه التصريحات أوصت الهيئة العامة لمجلس شورى التربية الوطنية في تركيا بإدراج اللغة العثمانية كمادة في المناهج الدراسية الرسمية، وبصدور التوصية بات بإمكان وزارة التربية الوطنية إعداد مشروع قانون يقدم للبرلمان ليجري البدء في تدريس مادة اللغة العثمانية بعد صدور القانون. وأثارت هذه التوصية فيما بعد جدلا شديدا في أوساط المعارضة التركية، فانتقد حزب الشعب الجمهوري، وهو الحزب الأول الذي أنشأه أتاتورك بعد إعلان الجمهورية، انتقد تلك الخطوة واعتبر أنه من الأولى إدراج مواد علمية للمناهج التعليمية بدلا من اللغة العثمانية، حيث قال الناطق باسم الحزب الكمالي: إن "اهتمام أردوغان لا ينصب فقط على اللغة العثمانية، بل إن هدفه الرئيسي هو تصفية الحسابات مع العلمانية والجمهورية". ومن جانبه، انتقد السياسي الكردي المعارض صلاح الدين دميرطاش، الذي ترشح أمام أردوغان في الانتخابات الرئاسية في أغسطس الماضي، والذي يسعى للحصول على حقوق ما يقرب من 15 مليون كردي في تركيا، بينها حق التعلم بلغتهم الكردية الأم التي لا تدرس في المدارس التركية الرسمية، قائلا: "إن جيشا بأكمله لن يجبر ابنتي على تلقى دروس في اللغة العثمانية". وفي إشارة أخرى ظهرت أمس فقط، وافقت لجنة الشئون الدستورية بالبرلمان التركي على اقتراح نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم بعمل شعار رسمي جديد للجمهورية التركية، وينص مشروع القانون الجديد على عودة شعار الدولة العثمانية مرة أخرى بعد أن ألغي في عام 1922 بسقوط الخلافة العثمانية في ذلك الوقت. وبالطبع أثار هذا الأمر لغطا في صفوف العلمانيين والقوميين، حيث أبدى نوزات كوركماز، نائب حزب الحركة القومية عن مدينة اسبرطه بجنوب غربي البلاد، رد فعل شديد على مشروع القانون، قائلا "يوجد سلطان وله قصر فخم وفاخر، ولم يكن ينقصه إلا شعار السلطان، وأخيرا تحقق ذلك أيضا!"، بحسب قوله. ولم تأت الإشارات العثمانية من أردوغان فقط، بل جاءت من نواب البرلمان عن حزب العدالة والتنمية، حيث ألمح بعضهم أن فترة الجمهورية التركية الكمالية لم تكن إلا "فاصلا إعلانيا"، فقد نشرت تولاي بابوشجو، النائبة بالحزب الحاكم عن مدينة "باليكسير" بشمال غربي البلاد في حسابها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي صورة كتبت أسفلها "انتهى الفاصل الإعلاني البالغ 90 عاما من عمر الإمبراطورية العثمانية ذات الأعوام ال 600". ونشرت بابوشجو صورة الرئيس التركي أردوغان خلال مراسم استقباله للرئيس الفلسطيني محمود عباس بالقصر الرئاسي الجديد، والمعروف إعلاميا بالقصر الأبيض الذي يبلغ عدد غرفه 1250 غرفة، ويظهر خلفهما حرس الشرف التركي وهم يرتدون الأزياء التي تمثل الدول التركية ال16 التي أسسها الأتراك في مراحل مختلفة عبر التاريخ. وعلّقت بابوشجو قائلة "هذه الصورة ينبغي الوقوف عليها وقراءتها جيدا، فالإمبراطورية العثمانية المتهدمة بحجة أنها لم تسلم فلسطين لإسرائيل والمظهر الخلفي للرئيس أردوغان مع نظيره الفلسطيني، هو ذكاء أكثر من رائع، فقد انتهى الفاصل الإعلاني الذي استمر 90 عامّا من عمر الإمبراطورية العثمانية البالغ 600 عام"، في إشارة لانتهاء عصر الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك على أنقاض الدولة العثمانية، وإلى عودة الدولة العثمانية من جديد. وفي ظل هذه الإشارات الواضحة في تصريحات مسئولي حكومة العدالة والتنمية ونواب البرلمان عن الحزب الحاكم، لم يعد هناك مجال للشك بأن عثمنة الجمهورية التركية ليست مجرد شعارا مرفوعا، بل واقعا يجري الإعداد له بكل قوة وثقة وخطوات منظمة مخطط لها بعناية في تحد صارخ للدولة الكمالية العلمانية.