إشراف: سامح قاسم إعداد: أحمد صوان "لا يستوعب المرء اللحظات ذات الأهمية الحقيقية في حياته إلا عندما يكون الأوان قد فات". قالتها الليدي مالوان، أو أجاثا ميري كلاريسا، الروائية الأكثر شُهرة في التاريخ باسم أجاثا كريستي، حيث تُرجمت أعمالها من الإنجليزية إلى مائة وثلاث لُغات، لتتربع رواياتها البوليسية على عرش مبيعات الرواية بأكثر من مليار نسخة حول العالم، وهي نفسها الروائية الرومانسية ماري ويستماكوت، وهو اسم مُستعار كتبت به بعض الروايات. "قضيت طفولة مُشّردة إلى أقصى درجات السعادة، تكاد تكون خالية من أعباء الدروس الخصوصية، فكان لي متسع من الوقت لكي أتجول في حديقة الأزهار الواسعة، وأسبح مع الاسماك ماشاء لي الهوى.. وإلى والدتي يرجع الفضل في اتجاهي إلى التأليف". ولدت أجاثا كريستي في الخامس عشر من سبتمبر عام 1890، من أب أمريكي وأم إنجليزية، وقضت طفولتها التي وصفتها هي نفسها بالسعيدة جدًا في بلدة "ساوباولو"، ولم تلتحق قط بالمدرسة، حيث تلقت تعليمها في المنزل تحت إشراف والدتها، وبدأت بقراءة قصص الأطفال التي أحبتها وتعلقت بها إلى درجة إيثارها القراءة على اللعب مع أقرانها، وفي سن الحادية عشرة تُوفيَ والدها، وبعد عام من رحيله انتقلت إلى جنوب أفريقيا للعيش مع زوج والدتها الجديد، وظلت هُناك ثلاث سنوات قبل أن تنتقل إلى باريس، والتحقت بمدرسة جمعت فيها بين الموسيقى وزيارة المتاحف والمعارض الكثيرة في فرنسا، ولم تُعجب بالرسم الزيتي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ما اعتبره الجميع غرابة وخروج على المألوف. بدأت محاولات أجاثا الصغيرة في الكتابة، عندما عادت لبريطانيا عام 1910، حيث شاركت في تأليف بعض المسرحيات والقصائد الغنائية، كما شغفت حينها بقراءة مُغامرات المحُقق شيرلوك هولمز التي كتبها مواطنها السير آرثر كونان دويل. كتبت أولى قصصها القصيرة بعنوان "بيت الجمال"، ثم كتبت روايتها الأولى بعنوان "الثلج في الصحراء"، ولكنها لم تُنشر بعد رفض دور النشر لها بسبب ضعفها الفني. مع انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى، خدمت كريستي في المستشفى، وكان ذلك قبل لقاؤها بالعسكري البريطاني أرتشي كريستي، الذي تزوجته في عام 1914، فاكتسبت لقبها الذي ظل مُلازمًا لها بقية حياتها، وفي عام 1920 نشرت روايتها "قضية غامضة" في صحيفة بودلي هيد بريس، والتي بدأت بها مسيرتها الأدبية، ولكن زواجها منه فشل بسبب افتقادها ما عرّفته ب"الصُحبة المشتركة" أو "الرفقة الزوجية"، وهي قيمة أساسية في حياتها ظلَّت تؤكد عليها حتى بعد زواجها الثاني، وكذلك لارتباط أرتشي كريستي بعلاقة عاطفية مع امرأة أخرى، وتصرفه مع أجاثا باعتبارها ربة بيت ورفيقة فراش، فانتهت العلاقة بالطلاق بعد أن أنجبت منه ابنتها روزلند. في عام 1926 اختفت كريستي لمدة عشرة أيام، وفي سابقة نادرة اشترك الشعب البريطاني كله تقريبًا في البحث عنها، سواء بشكل مباشر أو بمتابعة أخبارها، ولم يعرف أحد سبب ذلك الاختفاء المتعمد، وأرجعت الكاتبة جانيت مورجان التي كتبت سيرتها عام 1985 السبب إلى صدمتها الثانية من فقدان الأم، بعد صدمتها في إخفاق زواجها، والتي أخفت الكثير من مُلابسات طلاقها، وكأنها تكتب إحدى رواياتها فقد فقدت أجاثا الذاكرة، لدرجة أنها تركت سيارتها على الطريق وذهبت إلى أحد الفنادق، وكانت تسأل الناس "من أكون؟"، إلى أن تعرّف عليها أحد الأقارب. "أفضل زوج يمكن للمرأة أن تتزوجه هو عالم آثار، فكلما زاد عمرها زاد اهتمامه بها". في عام 1930 تزوجت أجاثا كريستي من ماكس مالوان عالم الآثار المعروف، بعد أن التقيا في إحدى رحلاتها إلى الشرق، وعاشت معه في سوريا والعراق عندما كان يقوم بأبحاثه، وكانت تكبُره بثلاثة عشر عامًا. أتاح لها زواجها زيارة معظم بلاد الشرق، فسافرت إلى الشام والعراق ومصر وإيران، ووفَّر لها هذا التجوال ذخيرة كبيرة لكتابة أفضل أعمالها، والتي اعتمدت كثيرًا على مواقع الحدث في بلاد الشرق وخيالها الجامح، فظهرت شخصياتها، المفتش "هيركول بوارو" الذي نافس هولمز في شهرته، والكولونيل "بريس" والعانس اللطيفة "مس ماربل"، وقال زوجها في مذكراته عن طقوسها في الكتابة "شيّدنا لأجاثا حجرة صغيرة في نهاية البيت، كانت تجلس فيها من الصباح وتكتب رواياتها بسرعة وتطبعها بالآلة الكاتبة مباشرة، وقد ألَّفت ما يزيد على ست روايات بتلك الطريقة موسمًا بعد آخر". تميزت كريستي في رواياتها بالابتعاد عن التأويل الرمزي للحدث، وتركت لقارئها متعة فك طلاسم الغموض والغوص في تشابك علاقات شخوص الرواية، ببعضهم من جهة، وبالحدث من جهة أخرى، كما أنها تُحرّك أبطالها وشخوصها وفق صيغ دراماتيكية مُزدحمة بالخلفيات والتفاصيل، ثم تتصاعد الأحداث لتصدم القارئ بنهايات غير متوقعة. كانت أولى رواياتها هي "ثلوج على الصحراء"، التي لم يقبلها أي ناشر، وألفت بعدها رواية أخرى هي "القضية الغامضة في ستايلز"، والتي ظهر فيها شخصيتها الأسطورية هيركيول بوارو، وهو المُحقق البلجيكي البارع للمرة الأولى، وكانت مدخلها إلى عالم الكتابة عندما قبلها أحد الناشرين، وذلك بعد أن رفضها ستة من الناشرين، وأعقبتها "العدو الغامض" التي احتوت على محققين جديدين هما تومي وتوبينسي. وبعد أن نشرت أربع روايات أخرى، أما رحلاتها مع زوجها فأسهم في عدة أعمال منها "لؤلؤة الشمس"، و"موعد مع الموت"، التي وصفت فيها روعة بناء المسجد الأقصى وقبته المُشيّدة على صخرة مرتفعة، وحديثها مع الدليل العربي، وأيضًا "نجمة فوق بيت لحم". كما زارت أجاثا مصر، لتكتُب روايتها "موت على النيل"، التي تحولت إلى مسرحية بعنوان "جريمة قتل على النيل"، أيضًا كتبت الرواية الثانية "الموت يأتي في النهاية"، وكتبت مسرحية "أخناتون، حيث أعدّت لكتابة هذه المسرحية منذ زيارتها الأقصر عام 1931، واستعانت بعلماء الآثار في رسم شخصيات المسرحية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية تطوعت أجاثا للعمل في قسم الصيدلة في إحدى مستشفيات الحرب التي أعدتها الحكومة البريطانية لجنودها الجرحى، ما منحها خبرة بالعقاقير والسموم استفادت منها في رواياتها لاحقًا، كما استفادت من أجواء الحرب لكتابة قصة عام 1941 قام على إثرها جهاز المخابرات البريطاني بالتحقيق معها للاشتباه بأنها جاسوسة للقوات النازية، واستغرق التحقيق أكثر من عام، وتم إنهاء القضية لعدم توافر الأدلة. لم تتوقف أجاثا عن الكتابة رغم كل الظروف التي مرت بها، فجاءت الروايات إلى جانب القصص القصيرة والمسرحيات ناجحة، ومنها مسرحية "مصيدة الفئران" التي لا تزال تُعرض إلى اليوم في المسارح البريطانية منذ انطلاق عروضها في خمسينيات القرن الماضي، وتم تصنيفها كأطول فترة عرض في تاريخ المسرح العالمي، فكانت عند بلوغها سن الخامسة والثمانين قد أنتجت خمسة وثمانين كتابًا، وفي عام 1975، وبينما تتداعى صحتها، قامت كريستي بمنح حفيدها الوحيد "ماثيو"، حقوق عرض مسرحية «مصيدة الفئران» إلى جانب مسرحيات وروايات أخرى مثل" قطة بين الحمام". وفي الثاني عشر من يناير عام 1976 غادرت أجاثا كريستي عالمنا، ليكتُب زوجها"، عندما وصلت إلى الصفحات الأخيرة من هذه المذكرات توفيت عزيزتي أجاثا بسلام، بينما كنت أدفع كرسيها ذي العجلات إلى حجرة الجلوس بعد تناول طعام الغذاء".