في بدايات القرن العشرين، أقام النادي الأهلي حفلاً لأعضائه، من ضمن الأعضاء كان المهندس محمد عبد القدوس، والذي يعمل بالطرق والكباري، كان يعشق الفن، فصعد على المسرح وقدم فاصلاً من المونولوجات المرحة، فأعجبت به فاطمة اليوسف، الفنانة والكاتبة تُركية الأصل، لبنانية المولد، دخلا في قصة حب اكتملت بالزواج، فثار والده الشيخ رضوان عالم الأزهر، وتبرأ منه وطرده من بيته لزواجه من ممثلة، فترك الابن وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلاً ومؤلفاً مسرحياً. ولكن سُرعان ما يشعر الزوج العاشق بالغيرة على زوجته الشابة الفاتنة، التي تبحث عن المجد وتجري وراء الشهرة والمال، وفي العام الثاني من زواجهما تم الطلاق، وكانت روز اليوسف حاملًا في شهرها السابع، وبعد شهرين تضع مولودها إحسان في مستشفى الدكتور سامي بشارع عبدالعزيز في الأول من يناير عام 1919. "كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه".. هكذا وصف إحسان طفولته التي عاشها في تناقض بعد انفصال والديه، فكان يتنقل بين بيت جده لوالده الشيخ رضوان رئيس كُتّاب بالمحاكم الشرعية، والذي بحكم ثقافته وتعليمه متدين جدا، فكان يفرض على العائلة الالتزام، وأداء الفروض، والمحافظة على التقاليد، وكان يُحرّم على جميع النساء في عائلته الخروج إلى الشرفة بدون حجاب، وكان إحسان يحضر ندوات جده ويلتقي زملاءه الأزهريين، رغم أن الجد كان من هواة الغناء، وكان يدعو إلى بيته مطربين منهم عبده الحامولي، بل وسمّى ابنه عبدالقدوس على اسم عازف ناي كان معجبا به، وفي الوقت نفسه كان إحسان الصغير يجلس مع والدته وكبار مُثقفي مصر في صالون روز اليوسف الذي يحضره السياسيون والشعراء والفنانون. درس إحسان في مدرسة خليل أغا، ثم في مدرسة فؤاد الأول، والتحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، ليتخرج منها عام 1942، حاول في البداية العمل كمحام، إلا أنه فشل بجدارة، وفي أثناء عمله كمحام تحت التمرين ألحقته والدته بالعمل في مجلة روز اليوسف كصحفي تحت التمرين أيضاً، واقتنع بأنه لا يصلح للمحاماة فتركها. "كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار، وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محامياً لامعاً". بعد أن اجتاز إحسان دراسته الجامعية بنجاح، اتخذ أهم قرار في حياته، فقد قرر أن يتزوج الفتاة الوحيدة التى أحبها واسمها "لولا"، التي وصفها بأنها حبه الأول والأخير، ويحكي عن طبق العاشوراء الذي كان بداية معرفته بها، وإعجابه بها وعلاقة الحب التي انتهت باقتناعهما التام بأنهما يجب أن يتزوجا، ولكن للأسف لم توافق عائلتها، فتزوجا سراً. "فى عصر أحد أيام نوفمبر سنة 1943 دخل المأذون إلى بيت محمد التابعى ليعقد قرانى سراً على زوجتى، ثم استأذنت لولا لتعود إلى بيت أسرتها وظللت أنا فى بيت التابعى الذى كنت أقيم عنده بعد خلاف وقع بينى وبين أمى".. ولم تمض أكثر من ثلاثة أشهر حتى عرفت أسرة لولا بالزواج، فبدأوا بتضييق الخناق عليها، ثم منعوها من الخروج، واستدعوا إحسان وطلبوا منه الابتعاد عنها "فأخبرتهم أننا تزوجنا منذ ثلاثة أشهر، فأغمى على أختها الكبرى فى الحال، وأخيراً اعترفوا بزواجنا، وعملوا كتب كتاب صورى وأحضروا نفس المأذون الذى عقد قراننا، ووقفنا لالتقاط الصور كأى عروسين يوم زفافهما"، وكانت السيدة فاطمة اليوسف رافضة لزواج ابنها لصغر سنه فقط ولم تحضر الفرح، أما المهندس محمد فكان سعيداً جداً، بل وتنازل عن شقته الصغيرة لابنه إحسان ليبدأ حياته. كانت أول أعماله الصحفية عندما ذهب إحسان لمقابلة محمد محمود باشا، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وفى تراس فندق سيسل المطل على البحر الأبيض وقف حائرا مترددا بين الأقدام، وهناك قابل الشاعر كامل الشناوى الذي اصطحبه للداخل مرحباً به، ورحب به رئيس الوزراء عندما علم شخصيته، ما زاد من ارتباكه، وفوجىء الحاضرون بعبارة فجرت قنبلة من الضحك حين قال "أمى بتسلم على سعادتك، وبتقولك عاوزة شوية أخبار". "كان المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل أسرع الحاضرين تمالكا لنفسه بعد موجة الضحك التى انتباتهم، فأسرع يطيب خاطرى ويملينى ما جئت لأجله من أخبار وتصريحات خطيرة، ورغم كثرة ما حصلت عليه من أخبار، فلم أكن سعيدا، ولكنى أديت واجبى الصحفى، وأمليت الأخبار لأمى تليفونياً وكانت سعادتها لا توصف بنجاح ابنها فى أول مهمة صحفية يكلف بها رسميا من المجلة". بعد سنوات من نضوجه صحفياً تولى إحسان رئاسة تحرير المجلة، وكانت مقالاته السياسية تعُرضه للسجن والاعتقال، ومن أهم القضايا التي طرحها قضية الأسلحة الفاسدة التي نبهت الرأي العام إلى خطورة الوضع، وتعرض إحسان للاغتيال عدة مرات، كما أُلقى في السجن الحربي بعد الثورة مرتين، وأصدرت مراكز القوى قراراً بإعدامه. أما عن الأدب، فُيعتبر عبد القدوس من أوائل الروائيين العرب الذين تناولوا في قصصهم الحب الجسدي، وكانت جرعات الجنس عالية في أعماله، وتحولت أغلب قصصه إلى أفلام سينمائية، ومثّلت أعماله نقلة نوعية متميزه في الرواية العربية، إذ نجح في الخروج من المحلية إلى العالمية. كان إحسان فى أعماله يُعرّى المجتمع ليكشف أخطاءه، فكتب أكثر من سُتمائة قصة، قدمت السينما عدداً كبيراً من قصصه، وأصدر ثلاث مجموعات قصصية أيام الملكية هي "صانع الحب" و"بائع الحب" و"النظارة السوداء"، وصوّر فيها فساد المجتمع المصري، وما يُعانيه خلال تلك الفترة من انغماس فى الشهوات والرذيلة، والبعد عن الأخلاق. وفي روايته "شىء فى صدرى" التي صدرت أواخر الخمسينات رسم إحسان صورة دقيقة للصراع بين الرأسمالية والشعب، والمعركة بين الجشع الفردي والاحساس بالمجتمع، كما شارك بإسهامات بارزة في الرواية، وكذلك فى المجلس الأعلى للصحافة ومؤسسة السينما، وقد كتب تسعة وأربعين رواية تم تحويلها لأفلام، وخمس روايات تم تحويلها إلى نصوص مسرحية وتسع روايات أصبحت مسلسلات إذاعية، وعشرة روايات تم تحويلها إلى مسلسلات تليفزيونية، إضافة إلى خمسة وستين رواية ترُجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوكرانية والصينية. كانت جرأة إحسان في تناول موضوعاته السبب الأكبر في اتهام الأدباء والنقاد له بأنه صاحب مدرسة أدب الفراش، وأنه كاتب الجنس للجنس، وأن قصصه تدعو للرذيلة، بل وصل الأمر إلى تقديم سؤال فى مجلس الأمة لوزير الثقافة في ذلك الوقت الدكتور محمد عبدالقادر حاتم، عن سماح الحكومة بنشر قصة "أنف وثلاث عيون"، والتي وصفها أحدهم ب"القصة الجنسية الهدامة"، وكان رد الوزير أن الحكومة لا تتدخل فى حرية الأدب، وعلى المعترض أن يتقدم للنيابة العامة إذا رأى هناك ما يستحق إبلاغها، وعندما نشر عبد القدوس مجموعته القصصية "البنات والصيف" اعترض عليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان من قُرّائه، فأرسل له قائلاً "والذي سجلته في قصصي يحدث فعلاً، ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه، أنها ليست حالات فردية، إنه مجتمع، مجتمع منحل ولن يُصلح هذا المجتمع إلا دعوة، إلا انبثاق فكرة تنبثق من سخط الناس كما انبثقت ثورة 23 يوليو، لهذا أكتب قصصى". كذلك حاول البعض من مراكز القوى أن يوغروا صدر الرئيس، فقالوا عن قصة "علبة من الصفيح الصدىء" أنها اتهام خطير للرئيس، وأنها تقول ببساطة إن ما حدث قبل الثورة ما زال يحدث بعدها، وأيضاً رواية "لاشىء يُهم"، ولم وكان رد فعل عبد الناصر أن أخذ القصة وقرأها بنفسه، وبعد أن فرغ من قراءتها أمر بعرضها فى التليفزيون كما هى دون تغيير أى شىء منها. "إن نشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون، وهذا السخط سيؤدي بهم إلى الاقتناع بضرورة التعاون على وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا تتسع للتطور الكبير، الذي نجتازه ونحمي أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التى يتعرضون لها نتيجة هذا التطور، وهذا هو الهدف من قصصي". تم تكريم إحسان عبد القدوس عدة مرات، كان أهمها حصوله على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ووسام الجمهورية من الرئيس الأسبق مبارك، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1989، والجائزة الأولى عن روايته "دمى ودموعى وابتساماتى" عام 1973، وجائزة أحسن قصة فيلم عن رواية "الرصاصة لا تزال في جيبي". وفى الثانى عشر من يناير عام 1990 رحل إحسان عبد القدوس عن عالمنا، تاركاً خلفه عوالم شيقة صنعتها كتاباته، لتظل حاضرة في الأذهان وعلى أرفف المكتبات حتى الآن.