المش .. أكلة مصرية عجيبة لا يعرف سرها إلا الله ، لأن الذين اخترعوا المش قد رحلوا عن عالمنا ربما قبل بعثة موسى عليه السلام ، سر المش والذي لا يعرفه أحد من أهل الدنيا ؛ هو أنك لن تستطيع أبداً أن تنتج مشاً جديداً إلا إذا استعنت بقطعة من المش القديم لتضعها مع الجبن فيتحول الجبن إلى مش ، والمش القديم بالطبع كان جبناً ، ثم وضعوا معه قطعة من المش الأقدم ، فتحول الجبن القديم إلى مش ، ولو حاول أعتى علماء الأرض أن يتتبع تاريخ كل «زلعة» من المش حتى يصل إلى الزلعة الأولى التي تحمل سر المش الأول ، سيكون قد حكم على نفسه بضياع عمره هباءً ، وسيأكله «الدود» قبل أن يصل إلى معلومة تفيده في العثور على أي خيط يساعده في الوصول إلى ذلك المصري العبقري مخترع المش ، وهنا تكمن عبقرية المصري القديم الذي حير العالم بأسراره العجيبة ، فهاهو هرم خوفو القابع في نهاية شارع الهرم يحير العالم في سر بنائه ، وهاهي المومياوات تقتل العالم بحثاً عن سر التحنيط ، وهاهو المش يتحدى أعتى علماء الكيمياء أن يصل إلى سر تركيبته السحرية الخالدة . وبالطبع فإن المصري القديم لم يورثنا فقط أهراماً ومومياواتٍ ومشِ ، فقد أورثنا هذا المصري القديم العبقري مجموعة من الصفات التي لن تجدها إلا في الشعب المصري وريث حضارة العظماء ، فالمصري فقط هو الذي يبكي من كثرة الضحك ، والمصري فقط هو الذي كان يضحك في الأصل من شيئ يستحق البكاء وليس الضحك ، والمصري فقط هو الذي يحلف «بالطلاق» أن تشرب الشاي أثناء زيارتك له ، وإن لم تفعل فربما يقتلك ، المصري فقط هو الوحيد الذي تجده دائماً وأبداً على خلاف مع رئيسه في العمل ، وربما يترك العمل ويجلس في الشارع لمجرد أنه «مش مبسوط في الشغل» ، وكأن العمل هو مكان الانبساط ، المصري فقط هو الذي يأكل السمك المعفن ، بل ويقيم الأعياد في يوم تناول السمك المعفن ، المصري فقط هو الذي إن رأى شخصاً يجري أو مجموعة تجري ؛ يهم فوراً بالجري في نفس الاتجاه لا يلوي على شيئ ، وكل هدفه هو فقط أن يعرف سبب جري الناس ، علامَ يهرولون ، أو ممَ يفرون ، فإن كانت الإجابة فيها ما يسرَُه واصل الجري ، وإن كانت الأخرى ؛ جرى فوراً في الاتجاه الآخر . كثيرة هي تلك الصفات العجيبة التي يتمتع بها المصريون ويتفردون بها ، ولكن الأعجب هو أنك لن تستطيع أبداً أن تحصر صفات المصريين وإن جاهدت في ذلك ، ستكتشف وأنت تختم بحثك بأن هناك صفة فريدة لم تلحظها إلا اليوم ، كتلك الصفة التي تظهر الآن على الكثير من المصريين بعد الثورة ، صفة «التحضر» ، وإن أردت أن تكون دقيقاً في بحثك فالاسم الدقيق لهذه الصفة هو «التحضر في ميدان التحرير» ، فإن أردت أن تدرس حالة شخص متحضر ؛ اذهب إلى التحرير وادرس حالة أي شخص تقابله ، وإن أردت أن تدرس الحالة الأخرى ، ادرس حالة نفس الشخص ولكن خارج ميدان التحرير . وكأن التحضر والتقدم والرقي هي صفات جغرافية وليست إنسانية ، فالمصري بعد الثورة قد أخذ عهداً على نفسه بأن يصبح إنساناً جديداً كلما مر من ميدان التحرير ، إنساناً يستحق الحرية ، إنساناً يحترم آدميته وآدمية الآخرين ، لا يكسر إشارة مرور ، لا يلقي القمامة ، لا يعاكس فتاة ، يلقي السلام على كل من يقابله ، لا يقاتل مصري آخر لأنه داس على رجله ، لا يدفع شخصاً آخر ويطرحه أرضاً لأنه أراد أن «يسبقه» على سلم المترو ، كل شيئ يهون فأنت في التحرير ، وسرعان ما تتبخر هذه الصفات الرائعة بمجرد أن تدب قدمك في ميدان عبد المنعم رياض ، بمجرد خروجك من حدود الميدان تكتشف أن ميدان التحرير هو حالة فريدة تستحق وحدها رسالة وليس بحثاً . ما أروع الشعب المصري في التغير المفاجئ ، وكأن هذا الشعب قد اعتاد على «البسترة» تحت حكم فرعوني جثم على صدور هذا الشعب لقرون ، بالأمر : الشعب يحزن الآن فقد غرقت العبارة ، وفي المساء : الشعب يفرح الآن فقد فزنا بالكأس ، والشعب يحزن من قلبه حقاً ، ثم يفرح من قلبه حقاً في نفس اليوم . ولكن العجيب والمثير للضحك أننا تعامَلنا بمبدأ «البسترة» مع تلك الكمية الهائلة من الشعارات التي رفعناها وتغنينا بها أثناء الثورة وبعد الثورة ، أطلقنا قصائد الوحدة العربية ، ورفعنا أعلام كل العرب ، هتفنا بحياة إخواننا في ليبيا ، رفعنا علم تونس ، هتفنا لأهل سوريا ، شجعنا اخواننا في الجزائر ليبدأوا ثورتهم ، كان شعارنا أن ثورات العرب ستعيدهم أمة واحدة كما كانت ، يتخلص كل شعب من طاغيته ثم يعود لإخوته ، دولة عربية واحدة ، الولاياتالمتحدة العربية ، حدودنا من المحيط إلى الخليج . وفجأة .. حدثت «البسترة» ، خبر بسيط جداً على مواقع الإنترنت يفيد بتأجيل جولة الدكتور عصام شرف في دول الخليج ، لم تمر دقائق على نزول الخبر حتى تناقلته جميع المواقع الإخبارية ، ووجدت المواقع الصفراء مادة دسمة لإنشاء موضوع يأخذ نسبة عالية من التعليقات التي تحمل شتائم ، مما يستدعي الرد على الشتائم ، مما يستدعي الرد على رد الشتائم بشتائم ، وكل ذلك في مصلحة الموقع ، أخذت بعض تلك المواقع الصفراء تصور تأجيل الزيارة على أنه رفض من حكومات دول الخليج لاستقبال الدكتور عصام شرف ، وبالطبع لابد من الإضافات التي تجعل الموضوع تجاريا وجماهيرياً ، «السعودية ترفض استقبال شرف اعتراضاً على محاكمة مبارك» ، «الإمارات ترفض استقبال شرف بسبب التقارب المصري الإيراني» ، وفجأة يتحول اهتمام كل المتابعين للشأن المصري إلى السب واللعن في كل ما هو سعودي وإماراتي ، كمية مهولة من الشتائم انهالت فوق رؤوس اخواننا في السعودية وفي الإمارات بسبب هذه الأخبار ، نسي الشعب المصري كل الشعارات التي كان يهتف بها في الميدان وترك لشيطانه العنان في «وقت التحول» ، في لحظة تحول الشعب السعودي إلى بتوع جاز والشعب الإماراتي إلى بتوع غنم . لماذا نقع في نفس الخطأ الذي قاسينا منه كثيراً ، ألم نكن نكره أن ينعتنا إخواننا في الجزائر بأننا «آل فرعون» أثناء المشكلة الكروية التي افتعلها النظام السابق ؟ ألم نكن نكره بأن يصفنا أخ سعودي ب «علي عوض» أو «أبو صرة» ؟ ألم نكن نشعر بالعار بسبب اتهام اخواننا في السودان لنا بأننا نحاصر غزة ؟ كم كنا نشعر بالحزن لأنهم آخذونا بما فعل السفهاء منا ؟ كم كنا نشعر بالخزي لأنهم أهانوا شعب مصر بسبب أفعال تستحق الإهانة ولكننا لم نفعلها بل فعلها كبيرنا المخلوع ؟ كيف نسيئ لشعبين شقيقين ونحن نعلم أن الشعوب العربية في وادٍ وحكامها في وادٍ آخر ؟ حتى وإن كانت هذه الأخبار التي أغضبتنا صحيحة ، فيجب ألا نخسر إخوة لنا ساندونا بدعائهم وأحسنوا إلى إخواننا المقيمين عندهم ، ولا نؤاخذهم بما يفعل حكامهم ، وحتى لو أظهرت الأيام القادمة بأن قيادات دول الخليج ترفض فعلا استقبال الدكتور عصام شرف ، أو حتى أعلنوها صراحة بأن حكوماتهم ضد الثورة المصرية ، فيجب أن نوجه مشاعر بغضنا في اتجاه غير اتجاه الشعوب ، من يستحقون البغض حقاً هم هولاء الجاثمين فوق صدور الشعوب الشقيقة .