أثارت زيارة رئيس وزراء الصين الأخيرة للهند والاتفاقيات التي أسفرت عنها ردود فعل واسعة سواء علي المستوي الاقليمي الآسيوي أو علي المستوي العالمي. والبيان الذي صدر وتحدث عن شراكة استراتيجية من أجل السلام والتقدم بين العملاقين أزعج البعض وأسعد البعض الآخر، ولكن أحدا لم يأخذ موقفاً حياديا، وعكف الجميع علي دراسته في محاولة لتفسير نتائجه السياسية والاقتصادية والعسكرية فالأمر يتعلق بأكبر دولتين في العالم "2،4 مليار نسمة" أي أكثر من ثلث سكان الأرض وتحديدا 28% ويملكون اقتصادياً صحيا ديناميكيا يحقق في السنوات الأخيرة أعلي معدلات للنمو العالمي. وحين وقف وين جياباو رئيس وزراء الصين الشاب ومعه ماغوهان سنج رئيس وزراء الهند المخضرم يمسك كل منهما بيد الآخر وتعلو وجهيهما الابتسامة الآسيوية المهذبة، تذكر الجميع ذلك اللقاء التاريخي الذي جري منذ أكثر من خمسين عاما بين شوا بن لاي رئيس وزراء الصين تلك الأيام وجواهر لال نهرور رئيس وزراء الهند وكذلك في اجتماع البانشا سيلا الذي أسفر عن مؤتمر باندرونج في ابريل سنة 1955. يومها وقف نهرو رئيس وزراء الهند التاريخي وهو يمسك بيد شوا بن لاي الزعيم الصيني التاريخي أيضا ليعلنان ميلاد قوة دولية جديدة وليؤكد كل منهما في تصريح مشترك أننا لا نزعم اننا سنغير العالم ولكن المؤكد أن أحدا لن يستطيع تغيير العالم بدوننا. تذكر الجميع هذه المقولة التي ساعدت قوي كثيرة داخلية وخارجية علي إهدارها في الماضي والتي انتظرت خمسين عاما لكي تتحقق علي يد الأبناء وربما الأحفاد والتي جعلت محللا سياسيا أمريكيا مثل هوارد فريش يعلن في الهيرالدتربيون أن زيارة الأيام الأربعة لرئيس وزراء الصين لنيودلهي وفي هذا التوقيت يعني أن هناك اتجاها قويا لاجراء تغيير فعال في الخريطة السياسية والاقتصادية للعالم. فمن يستطيع أن يتجاهل دولة مثل الصين ليس فقط لأنها أكبر دولة في العالم 3.1 مليار انسان، ولكن للانجازات الهائلة التي تحققت علي مدي العقدين الماضيين والتي جعلت الصين تحتل مركزاً متقدما علي الساحة العالمية من ناحية الانتاج والتجارة والثقل السياسي بل والعسكري الأمر الذي أدي إلي أن جهات علمية وعالمية كثيرة، منها البنك الدولي والمفوضية الاقتصادية الأوروبية تقول بأن استمرار النمو الاقتصادي في الصين بنفس المعدلات السائدة طوال السنوات العشر الماضية حول 9% يعني أن الصين ستكون الدولة الاقتصادية الأولي في العالم مع نهاية العقد القادم 2020. أما الهند أكبر ديمقراطية في العالم 05.1 مليار نسمة فقد فرضت نفسها خلال العقد الأخير كاقتصاد ديناميكي قوي يساهم بنصيب وافر في التجارة الدولية خاصة البرمجيات المتقدمة وتكنولوجيا المعلومات. كانت هناك طوال الخمسين عاما الماضية وخلافات كبيرة بين العملاقين الآسيويين خاصة اثناء الثنائية القطبية والحرب الباردة بل نشبت بينهما حرب حدود ساخنة سريعة سنة 1962 لعبت بها وعليها القوي الكبري آنذاك - الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالأمريكية - فبينما ساند الاتحاد السوفيتي الهند ضد تمرد بكين علي زعامة السوفيت للمعسكر الاشتراكي، راحت الولاياتالمتحدة تغازل الصين في محاولة لايجاد محور آسيوي جديد مناوئ للتحالف السوفيتي الهندي، وتناست الولاياتالمتحدة جروحها القديمة مع الصين الشعبية حين واجهت القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية الاعصار العسكري الصيني السائد في ذلك الوقت لكوريا الشمالية. وبالرغم من أن هناك خلافات بين البلدين في التركيبة الجيوبولتيكية والتوجه السياسي والذي أدي إلي أن تتخذ الهند منذ بداية الاستقلال الشكل البرلماني الليبرالي، بينما اتجهت الصين منذ 1849 وهو نفس العام الذي استقلت فيه الهند إلي بناء تجربة اشتراكية فريدة يقودها الحزب الشيوعي الصيني. وبالرغم أيضا من أن الصين تمثل إلي حد كبير وحدة قومية مترابطة حيث تشكل قومية الهان نسبة 95% من السكان، تقدم الهند فسيفساء عرقياً ودينياً متداخلاً ومتشابكاً حيث يوجد أكثر من 50 عرقاً وجنسية وديناً في شبه الجزيرة الهندية. بالرغم من كل ذلك فالبلدان - الهند والصين - يقدمان حضارة عريقة وقديمة كان ومازالا لكل منهما بصمة واضحة بأبعادها الكونفوشيوسية والبوذية والهندوكية، كما تشترك الدولتان في انتمائهما إلي نمط الانتاج الخاص بالمجتمعات النهرية والوديان وهو ما اطلق عليه نمط الانتاج الآسيوي، كما عاني الشعبان ولفترة طويلة من الأشكال الاستعمارية والطموحات الأجنبية طوال القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين حين حصلت الهند علي استقلالها وحين تمكنت الكتائب الشيوعية بزعامة ماوتسي تونج من الانتصار علي اليابانيين وعلي مجموعة الكومنتاج التي كانت تحكم إعلان قيام الصين الشعبية. وبالرغم من البروتوكولات الاقتصادية والتجارية والحدودية التي عقدت إلا أن كلمات البيان المشترك حول الأوضاع الدولية الراهنة شدت الكثير من الأنظار خاصة تلك الفترة التي تقول بأن الهند والصين قادرتان علي إعادة تشكيل نظام عالمي جديد قائم علي التقدم والسلام. والمغزي الحقيقي للتحالف الصيني الهندي لا يكمن في حل مشكلة الأربعة آلاف كيلو متر علي الحدود في التبت والهملايا ولا حتي في مساندة الصين للهند في حصولها علي مقعد دائم في مجلس الأمن فكل هذه الأمور تعد بمثابة تفصيلات تزين وتجمل كادر الصورة، ولكن اللافت للنظر هو استخدام زعماء الصين والهند نفس الكلمات علي غير عادتهم وهم يتحدثون عن توافر رغبة كبيرة ومؤكدة بين الطرفين، ليس فقط للتغاضي عن بعض حماقات الماضي وتركته المثقلة، بل والتحرك سويا وإلي الأمام لإعادة تشكيل مراكز الثقل الأساسية في العالم. وانه لأمر له مغزي كبير أن يحدث ذلك في الوقت الذي تجتاح فيه المظاهرات المدن الصينية الكبري ضد اليابان بعد صدور كتاب ياباني مدرسي جديد يحاول تبييض وجه العسكرية اليابانية ويخفف كثيرا من الجرائم البشعة والتجاوزات اللاانسانية التي ارتكبتها اليابان اثناء احتلالها للصين وكوريا في الحرب العالمية الثانية حيث قتل أكثر من 35 مليون صيني وتحولت النساء والفتيات الصينيات إلي محظيات وخادمات للضباط والجنود اليابانيين. ولاشك أن هناك علاقة مؤكدة بين الحدثين خاصة بعد أن هددت الصين برفض حصول اليابان علي مقعد دائم لمجلس الأمن، ورسالة صينية واضحة تقول إن الهند وليست اليابان هي الحليف المختار لرحلة المستقبل المشتركة. ولعلنا نشهد في الذكري الخمسين لمؤتمر باندونج، حدثا تاريخيا جديدا، فإذا كان باندونج قد اضاف للمعسكرين القائمين أيامها معسكرا ثالثا أو عالما ثالثا، فإن الاتفاق الاستراتيجي الصيني الهندي يفتح الطريق العملي أمام اعادة تشكيل مراكز الثقل في السياسة العالمية.