كثيرة هي الزيارات التي يقوم بها رؤساء الحكومات الي بلدان أخري، لكن قليلاً منها يمكن إطلاق صفة "الأهمية" عليه. وكثيرة هي التصريحات والبيانات التي تصدر في ختام هذه الزيارات المزدحمة بالمراسم والتشريفات والمجاملات والنفاق، لكن النادر منها هو الذي يستحق ثمن الحبر الذي كتبت به كلماته المدهونة بالدبلوماسية والمنتقاة بالشوكة والسكين. من هذه الزيارات القليلة التي تكتسب أهمية استثنائية تلك التي قام بها رئيس الوزراء الصيني "وين جياباو" منذ أسبوعين، وتحديداً يوم الاثنين الموافق 11 أبريل الجاري الي الهند، ومن هذه التصريحات والبيانات التي يجب ان توزن كل كلمة من كلماتها بميزان الذهب تلك التي ادلي بها الضيف الصيني ومضيفه مانموهان سينج رئيس حكومة الهند. أما أهمية الزيارة فلها مسوغات كثيرة، منها ان العلاقات بين البلدين ظلت سيئة علي مدي اكثر من أربعين عاماً، وصلت الي حد ان الدولتين خاضتا حرباً طويلة ومريرة عام 1962 بسبب نزاعاتهما علي حدودهما المشتركة التي تمتد بطول 3550 كيلومترا. وجاءت زيارة رئيس وزراء الصين للهند مؤخرا لتضع نهاية لهذه العقود الموغلة في العداء والخصام، ولتفتح صفحة جديدة من التعاون والشراكة، ان لم يكن التحالف. وبطبيعة الحال فان هذا التحول لم يتم بين عشية وضحاها أو بصورة مفاجئة بل كانت له مقدمات رصدت بعضها الكاتبة الهندية براكريتي جوبتا التي لاحظت ان الجانب الصيني أبدي اهتماما بالهند خلال السنوات القليلة الماضية اثر ملاحظة الصين للصعود السريع في معدلات النمو الاقتصادي في الهند، خاصة فيما يتعلق بقطاعات الخدمات ومجالات "الاقتصاد الجديد" مثل تكنولوجيا المعلومات والفضاء وتكنولوجيا "النانو" اي الأشياء متناهية الصغر، والتحديث العسكري . وفتح صفحة جديدة للتعاون بين البلدين ليس مسألة هينة أو علي الأقل فانها ليست مثل اي تعاون بين دولتين "عاديتين". لأننا نتحدث عن دولتين تضمان اكثر من 2.5 مليار نسمة، اي نحو 40% من البشرية جمعاء، تشكلان معا اكبر سوق في العالم قاطبة، يكاد يكون تسعة أمثال السوق الأمريكية الجبارة. والجديد بعد أجيال متعاقبة من الكراهية والعداء ان يقول وزير التجارة والصناعة الهندي اليوم اني أري اوجه تشابه اكثر من التنافس بين الهند والصين، ولا أري البلدين في سياق "الهند مقابل الصين" بل أراهما في سياق "الهند مع الصين". وليس هذا مجرد كلام إنشائي أو مجاني، بل انه يعكس حقائق اقتصادية مهمة جداً، فالبلدان حسب تعبير الوزير ذاته اصبحا "محركين توأم للنمو الاقتصادي، حيث الهند تقود صناعة تطوير البرمجيات بينما تقود الصين صناعة الأجهزة والمعدات، مضيفا انه مما يشير الي توافر إمكانيات ضخمة لتوسيع النشاط التجاري الثنائي بين البلدين حقيقة نمو التجارة الثنائية بمعدل مليار دولار امريكي شهريا مقارنة مع مليار دولار سنوياً قبل عام واحد". والأرقام بهذا الصدد تقول ان التجارة بين البلدين ظلت تنمو بمعدل 30% سنوياً خلال الأعوام الثمانية الماضية، ويمكن ان يتجاوز حجمها السنوي 30 مليار دولار بحلول عام 2010. ولذلك يجب ان نتعامل بجدية مع قول رئيس وزراء الصين انه "إذا تعاونت الصين والهند مع بعضهما في الصناعة التكنولوجية سيمكنهما قيادة العالم، وسيشهد العالم بالتالي بداية العصر الآسيوي في الصناعة التكنولوجية". هذا الكلام ليس "طق حنك" علي حد تعبير إخواننا اللبنانيين، وإنما هو تعبير عن تحالف عملاق يتشكل، يمثل بدوره تغيراً محتملاً في ميزان القوي العالمي. وهو ليس مجرد أمنيات وردية صينية هندية، وإنما هو واقع جديد يتبلور، وهو بالمناسبة ليس خافيا علي الأمريكيين الذين ينفردون الآن بالهيمنة علي قيادة النظام العالمي ويستميتون للإبقاء علي هذه الهيمنة المنفردة بأي ثمن.. والدليل علي ذلك ان مجلس الاستخبارات الوطني الامريكي اعد في ديسمبر الماضي دراسة مهمة جاء فيها ان "عقد التسعينيات كان نهاية القرن الامريكي، وتشهد بداية القرن الحادي والعشرين إرهاصات صعود بعض الدول في العالم النامي بقيادة الهند والصين" ولا تستبعد هذه الدراسة ان يؤدي هذا التطور الي قيام عدد من التحالفات الجديدة التي ترسم خريطة سياسية مغايرة لتلك التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية. وعلي هذه الخلفية يجب ان نقرأ باهتمام شديد ما ورد في البيان الختامي لزيارة رئيس وزراء الصين للهند من ان "العلاقات الهندية الصينية قد اكتسبت طابعا عالميا واستراتيجيا" وبناء عليه "اتفق البلدان علي تأسيس شراكة تعاونية واستراتيجية.. من اجل السلام والازدهار". ومن هنا أيضا يجب ان نتعامل بكل جدية مع تصريح رئيس وزراء الهند بأن "الهند والصين باستطاعتهما معاً إعادة تشكيل القرار العالمي".