الحديث الأبرز داخل السوق طوال الأيام الأخيرة انصب علي المعركة الدائرة الآن بشأن قضية صناعة الدوائر وحقوق بعض الشركات المحلية في إنتاج وتسجيل أدوية بديلة عما تنتجه شركات عالمية ثم بيعها بأسعار أقل.. تفاصيل المشكلة معروفة وبدأت بموافقة وزارة الصحة علي تسجيل 850 صنف دواء من هذا النوع في شهر يناير الماضي وقد أدي الترخيص بتداول هذه الأدوية إلي رد فعل منفلتة من لوبي شركات الدواء الأمريكية الأكبر والأكثر نفوذاً في العالم والذي استطاع بسهولة تحويل المشكلة الفنية أو التجارية بالأحري إلي قضية سياسية تتداول أوراقها الآن في وزارات الخارجية والتجارة وبلغت التهديدات بعد ذلك حداً مزعجاً بعد أن طالب لوبي الأدوية الأمريكي بالتوقف عن محادثات إنشاء منطقة التجارة الحرة بين الولاياتالمتحدة ومصر وهي المفاوضات التي لم تبدأ عملياً بعد إلي حين انصياع مصر للمطالب الأمريكية بوقف الترخيص بتداول هذه الأصناف لضررها علي الإنتاج الأمريكي (الأصلي) ومن ناحية المبدأ فإن القضايا التجارية واردة يمكن مناقشتها والتوصل إلي حلول لها غير أن التلويح عند كل قضية بإجراءات سياسية تحمل طابعاً عقابياً هو مسلك جديد في العلاقات بين الدول لاسيما وقد سبقه تلويحات مماثلة بمراجعة المساعدات الأمريكية لمصر وإجراءات أخري بسبب القضية الجنائية المتهم فيها (الدكتور) أيمن نور رئيس حزب الغد الوليد فليس هكذا تدار الأمور... أو كانت تدار. وبعيداً عن العدوانية في رد الفعل الأمريكي تجاه مسألة الأدوية البديلة فإن هذا الاعتراض يستند إلي مجموعة اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية التي تم التوصل إليها في ختام جولة أورجواي عام 1995 والتي تعد جزءاً من مفاوضات تحرير التجارة الدولية وعند توقيع هذه الاتفاقيات التي عرفت اختصاراً ب "التريبس" نبه الخبراء والاقتصاديون وقتها إلي مخاطرها الشديدة علي مستقبل الإنتاج والتصنيع في الدول النامية وتلك الأقل حظاً في إنتاج التكنولوجية الجديدة ليس فقط في الأدوية وإنما في كثير جداً من الأنشطة الصناعية والخدمية وحتي الفنية، إن جوهر اهتمام الولاياتالمتحدة والدول الصناعية الكبري بالتوصل إلي التريبس وتضمينها كل هذه القيود عند استخدام الدول والشركات انماط إنتاج وتقنيات غربية في أنشطتها الاقتصادية هو الحفاظ علي الحقوق المالية للجهات مالكة براءات الاختراع والتقنيات الجديدة وذلك بعد التطورات الاقتصادية المتتالية في أنحاء العالم والتي جعلت من إنتاج السلعة أو الخدمة متاحاً للجميع بينما توجهت الدول والشركات الكبري إلي الاهتمام بالاختراع وايجاد التكنولوجيا وأنماط الإنتاج الجديدة ثم يتم بعد ذلك تسويق هذه المخترعات وبيعها لكي يتم إنتاجها في أي مكان مقابل اتاوات باهظة لمالك الاختراع يتحملها المنتج في أي مكان آخر، هذا الأسلوب أخذ في الانتشار الآن في صناعات التجميع والحاسبات والإلكترونيات وغيرها من الصناعات التي برعت فيها الصين والدول الآسيوية والتي تضرب عرض الحائط بحقوق الملكية الفكرية حتي الآن وتنتج سلعاً مقلدة من كل الأصناف وتباع في انحاء العالم بما فيها الأسواق الأمريكية دون أن تصل منظمة التجارة العالمية إلي حل بشأنها حتي الآن، وصعوبة التوصل إلي حل تنجم في الأساس إلي عدم عدالة ورحمة بنود اتفاقيات التريبس ولأن الأساس مجحف فان كل الممارسات التي تنظمها هذه الاتفاقيات سوف تعاني من التحايلات والمخاتلة والخداع في التنفيذ وهذا ما يحدث في بقاع كثيرة من العالم الآن وبالتالي فإن المشكلة ليست حكراً علي مصر كما أنها ليست قضية بين الشركات المصرية والأمريكية، وإنما هي قضية بين أمريكا ومعظم دول العالم خاصة النامية ولا ننسي أن تقريراً أمريكياً رصد أن حجم السلع المقلدة أو المزيفة التي تنتجها الصين سنوياً تصل إلي 200 مليار دولار بما يعادل ثلث الصادرات الصينية! لدي مصر في هذه القضية أسانيد لا بأس بها يأتي في مقدمتها أن أسعار الدواء (الأصلي) مبالغ فيها إلي حد يفوق قدرات المواطن العادي كما هو معروف وبالتالي فإن لجوء بعض الشركات لاستخدام تركيبات متاحة حتي علي الإنترنت كما يقول الدكتور زكريا جاد نقيب الصيادلة في إنتاج أدوية أقل تكلفة هو مبرر له اعتباره حتي وإن كان يمثل خروجاً عن بنود التريبس في بعض الحالات وليس كلها، ومن الناحية الاقتصادية لا يجب علي الشركات العالمية أن تتجاهل انها تستحوذ عبر إنتاجها المحلي علي 65% من سوق الدواء في مصر ذي تتراوح نسبته بين و 10% من سوق الدواء المحلي بينما لا يمثل إنتاج الشركات المصرية الخاصة والحكومية أكثر من ربع السوق المحلي تقريباً ومعظم الإنتاج داخل هذه النسبة يتم باتفاقيات وتراخيص من شركات عالمية إلي الشريك المصري، إن القضية التي شغلت الجميع طوال الأسبوع الماضي وأوجدت كل هذا الهياج الأمريكي لا تستحق من ناحية قيمتها المالية كل هذه الاحتجاجات والتهديدات فنحن نتحدث عن 850 صنفاً من بين حوالي 8 الاف دواء يتم إنتاجها في مصر النسبة العظمي منها يتم إنتاجها مباشرة من الشركات العالمية أو بالاتفاق معها بقي أن أسلوب التهديد والوعيد في حل الخلافات بين الشركات لن يجدي لأنه اعتداء علي سيادة دول وقوانينها الداخلية وبسبب التريبس وتعقيداتها وحدها فإن الولاياتالمتحدة ربما تجد نفسها في غضون سنوات قليلة في صراع تجاري مع معظم دول العالم فهل تستمر في سياسات التهديد أم الأفضل البحث عن حلول اقتصادية سياسية تراعي مختلف الظروف في كل قضية علي حدة وذلك إلي أن تنضج الظروف الدولية لإعادة النظر في اتفاقيات التريبس وإزالة ما بها من بنود مجحفة تهدد السلام والتنمية في الدول النامية.