الأبعاد الدولية لأزمة أوكرانيا ليست أبعاداً ثنائية فقط بل هي في واقع الأمر ثلاثية الأبعاد والأطراف. وخلف شعار الديموقراطية تتحارب المعسكرات الثلاثة، وكل منها يزعم أنه حريص علي الشعب الأوكراني لكي يعبر عن إرادته في انتخابات ديموقراطية نزيهة، وكل منها في واقع الأمر يحارب معركته حيث المصالح ومناطق النفوذ والضرب تحت الحزام بما في ذلك ما تردد عن تعرض زعيم المعارضة الأمريكي الهوية لتبادل أقراص مسممة. روسيا، خاصة في عهد بوش، تعتبر العلاقة الروسية الأوكرانية علاقة محورية واستراتيجية، ليس فقط لأن أوكرانيا ظلت جزءاً لا يتجزأ من روسيا العنصرية ثم روسيا السوفيتية علي مدي خمسمائة عام، وليس فقط لأن أوكرانيا، كانت في العهد السوفيتي الذي امتد علي مدي 75 عاماً، وهي ثاني منطقة صناعية بعد روسيا من حيث الإنتاج الصناعي الثقيل خاصة صناعة السلاح المتطور والصناعات الكيماوية وصناعة السيارات "الفولجا الشهيرة" والمناجم والتعدين. ولكن الأهم من ذلك كله أن أوكرانيا التي خرج منها الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف وأيضاً ليونيتد برجنيف تمثل خط الدفاع الأول والأساسي عن الفناء الروسي الداخلي نفسه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وربما بل المؤكد أن لها دوراً أساسياً في الاستراتيجية القومية الواضحة التي ينتهجها الرئيس الروسي بوتين في محاولة إعادة ترتيب الأمور من جديد وإعادة روسيا إلي الساحة الدولية كقوة كبري بعد فترة انتقالية صعبة امتدت لأكثر من عشر سنوات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. لقد كان ومازال لأوكرانيا موقع متقدم في الأولويات الاستراتيجية العسكرية السياسية لروسيا فهي المنفذ الروسي الطبيعي إلي البحر الأسود حيث توجد حتي الآن القاعدة البحرية المركزية للأسطول الروسي في مدينة سيفاستيول، خاصة وقد فقدت روسيا مؤخراً معركة جورجيا حيث تمكنت الولاياتالمتحدة من فرض مرشحها لرئاسة جورجيا في العام الماضي الأمر الذي يعني في حالة فرض المرشح الموالي لأمريكا في أوكرانيا فقدان روسيا للقوقاز ودخول أساطيل الأطلنطي إلي مرافئ البحر الأسود الموازية للحدود الروسية. لذلك سارعت روسيا ومعها عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في وسط آسيا، كذلك حلفاء روسيا التقليديون مثل الصين والهند إلي الاعتراف بنتائج الانتخابات الملغاة والتي دفعت بفكتور بانوكوفيتس رئيس الوزراء إلي موقع الرئاسة بعد حصوله علي 48% من الأصوات. وكان قرار المحكمة الدستورية العليا في أوكرانيا حول إعادة الانتخابات في 26 ديسمبر، ليس فقط خروجاً علي الإرادة الروسية، بل وأيضاً التفافاً علي الرغبة الأمريكية التي ساندت وبقوة ما سمي بمرشح المعارضة فكتور بوشينكو والذي كان هو الآخر رئيساً للوزراء في أوكرانيا بعد الانفصال عن روسيا (1999-2001) وقام بتنفيذ الرغبات الأمريكية والبنك الدولي في خصخصة المشروعات وإجراء سياسات المواءمة من رفع الدعم علي كثير من المنتجات الأساسية الشعبية خاصة أن زوجته تحمل الجنسية الأمريكية وكانت تعمل في وزارة الخارجية الأمريكية. لقد ذهبت أكثر التحليلات عن الأوضاع في أوكرانيا إلي التركيز علي الحرب الباردة الساخنة الجديدة بين روسياوالولاياتالمتحدة وعلي أساس أن أوروبا الغربية تساند الموقف الأمريكي وهذا غير صحيح، فالموقف الأوروبي حاول أن يجد حلولاً وسطي للأزمة وكان دور خافييرسولانا المفوض السياسي للاتحاد الأوروبي هو الذي أجري لقاءات بين الأطراف المتنازعة، وحاول من خلال الرئيس الأوكراني الحالي ليونيدكوتشما البحث عن طريق ثالث. وكانت أوروبا ولاشك وراء الاقتراحات التي تقدم بها كوتشما إلي البرلمان الأوكراني لتعديل الدستور مما يجد من سلطات رئيس الجمهورية، واعطاء البرلمان والهيئات المنتخبة سلطات أوسع كشرط لإعادة الانتخابات وهو الأمر الذي تم بالفعل إذ صوت البرلمان بأغلبيته ساحقة "أكثر من 95%" لصالح هذه التعديلات. والمغزي الرئيسي لهذه التعديلات أنها بمثابة رسالة واضحة إلي الطرفين المتنازعين بانكوفيتش الذي ضاع منه الفوز وتناصره روسيا، ويوشينكو المعارض الذي خسر الجولة الأولي ويعتمد علي الولاياتالمتحدة لكسب الجولة الثانية، بأن وصول أي منهما إلي منصب الرئاسة في أوكرانيا سيكون مجرد منصب فخري بعد أن تحولت أوكرانيا بناءً علي التعديلات الجديدة إلي جمهورية برلمانية بعد أن كانت جمهورية رئاسية وفقاً للدستور القديم حيث كان لرئيس الجمهورية سلطات واسعة بما في ذلك إقالة الحكومة وحل البرلمان.