لا أري قضية شهدت كل هذا الكم من الخلط والالتباس كتلك المتعلقة بالموقف من التفاوض علي اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة التي عرفت اختصارا باسم الكويز.. القضية قديمة جديدة وكذلك المناقشات والاختلافات حولها والتي بلغت حدا من التناقض والنقار كثير من غير مبرر اذا ما حسنت البصيرة. القضية تشهد قدرا عاليا من الاختلاط بين النيات الحسنة والسيئة وبين الاقتصاد والسياسة وبينهما وبين مفهوم الوطنية وبين كل ذلك وبين المفاهيم الحديثة لادارة الصراعات الخارجية وتحقيق المصالح والتي يجب ان تكون مقدمة علي ما عداها من اولويات.. وقد يكون هناك بعض العذر في تناقض المواقف والشبهة العاطفية التي تعالج بها مسألة الكويز في مصر كونها تتم وسط اعتداءات اسرائيلية همجية ومتوحشة علي اشقائنا في فلسطين كما يعكس المشهد العراقي الحزين نفسه ويحدث اثره في المسألة كون ان اتفاقية الكويز لها علاقة مباشرة بكل من الولاياتالمتحدة واسرائيل من جهة ومصر من الجهة الاخري. القضية باختصار ان القسم التاسع من اتفاقية التجارة الحرة بين الولاياتالمتحدة واسرائيل التي جري ابرامها في الثمانينيات تتضمن بندا يمنح الرئيس الامريكي الحق في اعفاء او تعديل نسب الضرائب الامريكية المفروضة علي سلع يتم انتاجها في مناطق صناعية مؤهلة داخل حدود مصر والاردن ويدخل في انتاجها مكون اسرائيلي روئي ألا يقل في حده الادني عن 8% من هذه السلعة، وغني عن البيان ان هذا البند كان المقصود به دعم عملية التطبيع التي كانت في مستهلها خلال فترة توقيع الاتفاق ثم تعثرت بعد ذلك للاسباب المعروفة.. وفي مصر وبسبب الشعور الشعبي العام الرافض للتطبيع بكل اشكاله نتيجة للممارسات الاسرائيلية العدوانية فضلا عن القلق الفطري من مخاطر التطبيع، فقد لاقي الحديث عن توقيع اتفاقية الكويز صدي شعبيا وحتي رسميا لسنوات طويلة، غير ان الاردن سلكت مسلكا مختلفا رغم تساوي الرفض الشعبي في البلدين حيث قامت الحكومة هناك بتوقع اتفاقية الكويز عام 1996 بعد مفاوضات سريعة وقد نجحت الاردن خلال هذه الفترة في القفز بصادراتها من الملابس والمنسوجات الي الولاياتالمتحدة عبر الكويز من 40 مليون دولار الي ما يقارب مليار دولار العام الماضي وقد ادي هذا النجاح الي استقطاب الاردن لاستثمارات ضخمة في هذا القطاع بينها استثمارات مصرية استغلالا للمزايا التي تمنحها الكويز لصادرات الملابس المصدرة باسم الاردن للولايات المتحدة.. الان ظهر تطور جديد يرتبط باتفاقيات تحرير التجارة الدولية حيث اعلنت الولاياتالمتحدة الغاء العمل بنظام الحصص وفتحت اسواقها امام جميع الدول لتوريد الملابس والمنسوجات اعتبارا من يناير المقبل.. هذه القضية تضع الصادرات المصرية التي بلغت العام الماضي ووفقا لنظام الحصص 550 مليون دولار في موقف حرج حيث انه مع التخلي عن نظام الحصص اصبح علي صادرات الملابس المصرية ان تنافس في اجواء مفتوحة مع صادرات اخري قادمة من دول اقل تكلفة وربما افضل في الجودة.. هذه المنافسة القادمة لا تؤرق المصريين وحدهم بل هي هم عام يشمل دولا كثيرة حيث تؤكد توقعات اسواق المنسوجات الدولية ان ثلاث دول فقط هي الصين والهند وباكستان سوف تستحوذ علي 65% من السوق الامريكي بعد الغاء نظام الحصص بسبب تقدم صناعة المنسوجات بها ورخص تكلفة الانتاج، اما الدولة الرابعة فهي اسرائيل.. وفي الفلبين وتايلاند وبنجلاديش وبعض دول اوروبا الشرقية فان هذه القضية تناقش الان علي نطاق واسع في محاولة لترتيب اوضاع صناعة المنسوجات بها للحد من خسائرها الناتجة عن الغاء نظام الحصص من تجارة المنسوجات الدولية، وفي البحث عن حلول رأت دول اجراء شراكة صناعية مع شركات من الدول الثلاث الكبري واحتمت دول اوروبا باتفاقيات التبادل التجاري بين الاتحاد الاوروبي وامريكا بالنسبة لمصر وبعيدا عن مشكلات التكلفة التي يتعين حلها فان اتفاقية الكويز توفر ملاذا قانونيا يحمي صادرات الملابس الي امريكا في سعيها للحفاظ علي حصتها الحالية فضلا عن امكانية زيادتها بحكم المزايا التي توفرها.. العقبة الكؤود هنا ان الانضمام للكويز يتطلب صراحة السماح بادخال مكون اسرائيلي في هذه النوعية من الصادرات وهو علي اية حال كان معمولا به قبل سنوات في مسعي اسرائيلي للالتفاف علي نظام الحصص قبل ان توقع اتفاقية التجارة الحرة مع امريكا.. التطورات الاخيرة اخذت مسألة الكويز ناحية الاقتصاد باكثر مما كانت عليه قبل اي وقت مضي، وما يجدر التفكير فيه الان هو الي اي حد يمكن ان تخدم السياسة الاوضاع الاقتصادية ومواجهة التطورات الاخيرة؟ خاصة ان السياسة ليست هي فن الرفض وانما هي فن التعامل مع الممكن ولا احد ينكر حجم الخلافات بين الصين والولاياتالمتحدة وكذلك روسيا بل والاتحاد الاوروبي ومع ذلك فان الجميع يوظفون السياسة لخدمة مصالح اقتصادية حيوية كون ان السوق الامريكي والاقتصاد الامريكي برغم كل شيء هو الاضخم والاكبر في العالم ولا يمكن تحقيق معدلات نمو كبيرة بعيدا عنه.. قد لا تكون الكويز هي الحل العاطفي الافضل للتعامل مع مشكلة اقتصادية تواجهنا الان غير ان السياسة لم تنشأ لتطويع الواقع للرغبات العاطفية وانما للتعامل مع الواقع واستثماره وتجنب مخاطره فهل يصح اعادة دراسة الكويز من هذه الزاوية.