أمرهما عجب.. مثل اثنين من الملاكمين في الدقائق الأخيرة لمباراة عنيفة وطويلة.. أنهك التعب ماكينة الضرب والمراوغة عند كل منهما، وأصبحت عضلاته عبئا ميتا وليس مصدر قوة وقدرة.. هكذا حال كل من مرشحي الرئاسة الأمريكية جورج بوش وجون كيري.. أصابهما الوهن والانهاك حتي لم يعد أي منهما قادراً علي حسم المعركة لحسابه، رغم احتشاد حزبه وراءه في مؤتمر عام، ورغم تراكم أرصدة الانفاق علي معركته الانتخابية بأكثر من احتياجها! الكارثة أن السباق الانتخابي لم ينته.. بقي من عمره قرابة 53 يوماً، بينما الأنفاس السياسية لكل من المتنافسين مقطوعة! في مقر الحزب الجمهوري بمعبد الدندر وسط ماديسون سكوير جاردن.. نيويورك.. وقف جورج بوش، الخميس الماضي 62 دقيقة يحدث أنصاره عن الأمن وحروب الأمن، والشأن الداخلي بتركيز خاص علي الاقتصاد.. كان أغلب همه أن يرسم لنفسه صورة زعيم قوي لشعب خائف يمر بأوقات يضطرم فيها العنف والاضطراب "tumultuous times"! تفاوتت رؤي المحللين لسباق انتخابات الرئاسة الأمريكية..يقول جون آلن ويليامز أستاذ علم السياسة بجامعة لويولا بشيكاغو "في خطاب قبوله الترشيح كان بوش في اعتقادي واثق النفس رئاسي النبرة.. لقد حرك كرته الانتخابية بضع خطوات إلي الأمام"! بينما كتب تشارلي كوك في صحيفة ناشيونال جورنال: "هذا السباق الانتخابي لم ينته بعد.. لكني اعتقد أن جون كيري فقد جانبا من الزخم وقوة الدفع بعد أن استغرق مع رفاق السلاح في الحديث بمؤتمر بوسطن عن حرب فيتنام، حتي بدوا وكأنهم صفحة من الماضي.. بينما تحدث بوش عن الحرب الجارية ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق"! وكان الجنرال المتقاعد تومي فرانكس الذي قاد قوات التحالف في العراق وأفغانستان، في صحبته التوفيق عندما وصف بوش وهو يقدمه في مؤتمر نيويورك بكلماته.. "انه القائد الذي يعتمد عليه.. عندما يتخذ القرارات الصعبة"! .. لكن دقات الطبول والنفخ في الأبواق لا تصنع سياسة، ولا تصل بسياسي إلي سدة الحكم، خاصة مع ناخب أمريكي راقي الوعي صعب المراس.. كان يحتشد خارج المؤتمر يرعد: "يسقط بوش"! بوش.. في خطر! الخطوة الاستراتيجية القادمة التي سوف تحسم السباق نحو البيت الأبيض هو: المناظرات الرئاسية "presidential debates" .. والمفاوضات حول عقدها وعددها وشروطها ومكانها، الآن جارية! والمناظرات الرئاسية في السباق الراهن سوف تكون عاملا عظيم الأهمية بالغ الخطر.. يشرح ويليام لنش رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة أدريجون.. اذا تجلي كيري في المناظرة، أو تعثر بوش.. سوف يفوز كيري بقبعة الرئاسة، خاصة ان بوش يطارده عدم رضا شعبي ينتشر كالحريق! في خطاب قبوله للترشيح لم يذكر بوش اسم منافسه جون كيري بالاسم إلا مرة واحدة.. لكن لعبة توزيع الأدوار اقتضت ان يسبقه اعصار من الهجوم الذي شنه كل من ديك تشيني نائب الرئيس، رودي جولياني عمدة نيويورك السابق. والسناتور الديموقراطي زيك ميلر الذي انشق علي حزبه وانضم لعضوية الحزب الجمهوري! ومن سبرنجفيلد بولاية أوهايو، جاء رد كيري عند منتصف الليل خالصا وصاعقا.. قال في حشد من ناخبيه: "شوهوا وطنيتي، وهاجموا صلاحيتي للخدمة كقائد أعلي للقوات المسلحة.. وسوف اترك للناخب أن يحكم بين من خدم دورتين عسكريتين في فيتنام، وبين من تهرب من الخدمة العسكرية خمس مرات!". وواصل كيري رد الصاع"ك "الذي يجعل القائد غير أهل لقيادة الوطن هو: تضليل الأمة، وهو يقودها إلي حرب في العراق.. والعجز أمام فقدان الملايين من الوظائف.. وترك 45 مليون أمريكي خارج شبكة الرعاية الصحية.. وترك الأسرة السعودية الحاكمة تهيمن علي أسعار البترول للمستهلك الأمريكي.. وتسريب عقود بمليارات الدولارات لشركة هاليبرتون دون مناقصة، بينما مازال اسمه علي كشف الأجور لديها.. هذا هو سجل القائد بوش ونائبه ديك تشيني"! وكما توقعت في مقالي الأسبوع الماضي من أن مؤتمر الحزب الجمهوري في نيويورك سوف يكون عائده الايجابي علي الرأي العام شديد المحدودية.. أكد قياس رأسي عام اجرته مؤسسة جون زغبي هذا التوقع.. لم تزد تذكرة بوش تشيني علي تذكرة كيري ادواردز الا بنقطتين فقط: 46 44! لكن اخطر النتائج التي جاء بها الاستفتاء هو ان أغلبية امريكية نسبتها تصل إلي 55% تعتقد ان أمريكا تسير علي مسار خاطئ.. جيمي كارتر وقع في مأزق شبيه سنة ،1980 وخسر السباق.. ومثله جورج بوش الأب سنة 1992! ويعلق ويليام لنش رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة أوريجون "بوش الابن في موقف أفضل من أبيه قبل 12 سنة.. لكنه مازال في خطر"! بالسياسة.. نحارب الإرهاب! قبل أربع سنوات، وقف جورج بوش في مؤتمر انتخابي في فيلادلفيا ينتقد السنوات ال8 التي أمضاها الديموقراطيون في الحكم.. قال وكأنه يتغني: "لقد أخذوا فرصتهم.. لكنهم لم يقودوا الوطن.. أما نحن فسوف نفعل"! وحدث بالفعل.. قاد.. حقق قليلا من النجاحات، وكثيراً من الفشل! لكنه يومها في فيلادلفيا وعد بمد خيمة الرخاء إلي الأركان المنسية في الوطن الأمريكي.. ومع ذلك لم يفعل.. وعندما قال في خطاب قبوله للترشيح في نيويورك الخميس الماضي: "لقد رأينا الاقتصاد الأمريكي المترنح يقف ثابتا فوق قدميه".. كان بوش يكذب! ويعلق مستشاره السياسي ماتيو بود: "المسألة ليست نزاعا حول الوضع الراهن.. القضية ان تتحدث عن سياساتك وخططك للمستقبل"!. برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي لبوش الأب، له تحذير حكيم من الاندفاع إلي الحرب في العراق، اطلقه قبل عامين، لكن صواريخ التوماهوك سبقته إلي سماوات بغداد.. وفي حوار له مع مجلة النيويورك أوبزيرفر، هذا الأسبوع، يواصل سكوكروفت نقده للحرب ضد الإرهاب، سواء في أفغانستان أو في العراق، ويصفها بأنها "رد فعل تجاوز كل حد"! تناغم معه جون كيري في خطاب انتخابي له هذا الأسبوع، ينتقد فيهحرب العراق، ويتهم إدارة بوش بأنها اندفعت إلي الحرب دون خطة لكسب السلام.. ويعلن أن في مقدوره اتباع سياسات تجعل أمريكا أكثر أمنا دون مزيد من الحروب! .. وبمزيد من الرشد يقول جون كيري: "اننا ننطلق في الاتجاه الخاطئ.. انني امتلك الخبرة، والفرصة الأفضل لإعادة بناء جبهة تحالفنا المنهارة، لننطلق جميعا في حربنا ضد الإرهاب العالمي علي نحو شرعي قوي وقاهر"!