لا يملك الرئيس المصري الجديد المنتخب ترف الوقت لبدء التعاطي مع التحديات الاقتصادية الصعبة التي تفرض ذاتها علي أجندته وبقوة، فبعد مرور سنة ونصف السنة علي بدء الثورة، مازال الاقتصاد المصري يمر في فترة تباطؤ شديد، وإذا استمرت المؤشرات الاقتصادية تتبع النمط ذاته، سيؤدي ذلك إلي أزمة طاحنة ستكون لها تداعيات سياسية واجتماعية. وأبرز التحديات التي تواجه الرئيس الجديد تتمثل في كيفية استعادة زخم النمو وثقة الأسواق وعودة المستثمرين لممارسة أعمالهم كالمعتاد، ولعل التحسن الذي انعكس علي مؤشرات البورصة المصرية بعد إعلان محمد مرسي رئيساً، يعتبر إشارة واضحة إلي حاجة المستثمرين إلي استعادة مناخ الثقة والاستقرار ضمن إطار سياسي يسمح بالتنبؤ بطبيعة المرحلة المقبلة. والتحدي الثاني الذي يواجه الرئيس يتعلق بطريقة إدارة التوقعات المرتفعة للشارع المصري والتي يرتفع سقفها باستمرار، في وقت ترتفع نسبة العجز في الموازنة وتتراجع إيرادات الدولة بسبب حال التباطؤ الشديد في الاقتصاد.. وتكمن المعضلة في كيفية التوفيق بين الحاجة إلي مزيد من الإنفاق من جهة وضرورة الحفاظ علي المؤشرات الكلية، مثل العجز في الموازنة الذي ارتفع للسنة المالية 2012 - 2013 إلي 10%، وتعتبر إدارة المالية العامة من أصعب الملفات في ظل جمود بنود الإنفاق العام التي تؤمن رواتب لنحو ستة ملايين موظف في القطاع العام بالإضافة إلي الإنفاق علي الدعم وعبء المديونية، وتشكل هذه البنود 78% من النفقات العامة وليس هناك كثير مما يمكن عمله حيالها. ويتمثل التحدي الثالث في غياب إطار عام يحدد التوجهات الاقتصادية المستقبلية، فكثير من السياسات الاقتصادية تعتبَر في المناطق الرمادية، وهي غير واضحة حيال أدوار اللاعبين الاقتصاديين خلال المرحلة المقبلة، ويزيد من الالتباس في مصر عدم وضوح النهج الاقتصادي الذي سيتبع، فهل سيكون نابعاً من البرنامج الاقتصادي ل "حزب الحرية والعدالة" أم من سياسات أخري؟ ويحد هذا الالتباس من قدرات صناع القرار علي اتخاذ خطوات إصلاحية بعيدة المدي. ومما يضاعف من المصاعب التي تواجه الاقتصاد المصري وبالتالي الرئيس الجديد هو رؤية المجتمع الدولي للتعامل مع الحكومة الجديدة، فحتي الآن لم تحسَم كيفية حصول مصر علي قرض صندوق النقد الدولي البالغة قيمته 3.2 بليون دولار.. ومن شأن نيل هذا القرض تأهيل مصر للحصول علي مزيد من القروض من أطراف صناديق تنموية عدة، فنيله بمثابة حسن سلوك في ما يخص التوجهات الاقتصادية المستقبلية، فيما يضاعف عدم نيله من مصاعب الرئيس الجديد.. وليس واضحاً كيف سيتحرك مرسي فيما يخص هذا الملف، فهناك ترتيبات مصاحبة لهذا القرض المعلق منذ فترة. ونجم عن هذه التحديات وسوء إدارة الملف الاقتصادي عدد من النتائج أبرزها تراجع احتياط المصرف المركزي وعلي إثر ذلك خفض المصرف المركزي نسبة الاحتياط الإلزامي للمصارف إلي 10% في مايو الماضي.. كذلك حاولت الحكومة تأمين سيولة من خلال إصدار سندات للمغتربين، لكن تلك المحاولات لم تنجح، وارتفعت تكاليف الاقتراض من المصارف المحلية لتبلغ أسعار الفائدة علي سندات الخزينة في آخر مزاد أعلي مستوي لها في 15 سنة. وتثير هذه المؤشرات مخاوف حول سعر الصرف في مصر، الذي ظل مستقراً نسبياً في الشهور ال 18 الماضية، لكن الغموض يكتنف إمكانات الاستمرار في حماية الجنيه المصري في ظل الاوضاع الاقتصادية الحالية وأمام هذه التحديات من أين يمكن للرئيس الجديد البدء في التعامل مع هذه الملفات؟ بداية يحتاج الرئيس الجديد إرسال الاشارات الصحيحة لبدء استعادة الثقة في الأداء الاقتصادي، وهذا يتضمن تحديداً القطاع الخاص الذي يبدو حتي الآن مغيباً عن المشهد السياسي بسبب تركة الماضي والانطباعات التي سادت عن هذه القطاع.. ويجب أن تتضمن الإشارات المرسلة موقف الدولة من كثير من الملفات الاقتصادية والأدوار المتوقعة من اللاعبين الاقتصاديين.. كذلك ثمة حاجة إلي إعادة تأهيل مفهوم القطاع الخاص وعدم الاستمرار في الحديث عنه وتحليله علي اعتبار أنه كان مرتبطاً بنظام حسني مبارك وابنه جمال، إذ بات مصطلح القطاع الخاص في مصر موازياً للفساد والتواطؤ مع أجهزة الأمن وغيرها من المؤشرات السلبية. في المجال الثاني، علي الحكومة التوقف عن الاقتراض من السوق المحلية وبالتالي الاستحواذ علي السيولة وحرمان كثير من القطاعات الأخري منها، فاستمرار الحكومة في الاقتراض يرفع من تكاليفه، ويسهم في زيادة العجز، ويؤجل كثيراً من القرارات الصعبة التي يمكن البدء فيها، مثل إعادة النظر في سياسات الدعم التي تستهلك جانباً كبيراً من النفقات العامة، إلي جانب السياسة الضريبية.. ويحتاج ملفا الدعم والضرائب إلي شرعية سياسية ووحده الرئيس الجديد المنتخب القادر علي إدارة الحوار المتعلق بهما. ومن الأولويات التي يمكن أن تسهم في استعادة جانب من زخم النمو، الاهتمام بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي توظف العدد الأكبر من العاملين في مصر، فهذه المشاريع تعاني صعوبات كبيرة في التمويل والوصول إلي الأسواق، ويمكن لتخصيص جانب من التسهيلات الائتمانية لهذا النوع من المشاريع أن يسهم في تخفيف الضغط علي الحكومة ويلجم الحاجة إلي مزيد من النفقات العامة. وفي المدي الأبعد لابد من إعادة الاعتبار إلي قطاع الزراعة الذي يعاني تراجعا في مستويات الإنتاجية لكنه قادر علي استيعاب أعداد كبيرة من الأيدي العاملة، كذلك الأمر فيما يخص قطاع الصناعات التحويلية الذي يعتبر المولّد الأكبر لفرص العمل، وفي ظل الأوضاع المستجدة في مصر لا يوجد ما يمنع من اتباع سياسة تصنيعية وزراعية جديدة تسهم في استعادة التوازن في الاقتصاد بسبب الإهمال والسياسات الخاطئة التي اتبعت في العقود الماضية.. ومهما يكن من أمر فالملف الاقتصادي بدءاً من أزمة المواصلات والمرور وانتهاء بتراجع رصيد العملات الأجنبية سيكون هو الأكثر حضوراً أمام الرئيس الجديد الذي يحتاج إلي التحرك سريعاً. ان مصر تمتلك بدائل استثماريه عريضة علي رأسها القوة الاقتصادية للمصريين في الخارج الذين يمكن ربط دعمهم للاقتصاد المصري باستثمارات محددة الي جانب امكانيه طرح صكوك تمويل بعملات اجنبية لتمويل مشروعات تنمويه مثل تشجيع زراعة القمح محليا بما يعني زيادة فرص عمل وتنشيط اقتصادي بالاضافة الي زيادة في النقد الاجنبي آخذين في الاعتبار ان تحويلات المصريين في الخارج العام الماضي قد بلغت رقما قياسيا تجاوز 12 مليار دولار . كذلك فإن من البدائل الاقتصادية حاليا تحصيل الضرائب المتأخرة وترشيد الانفاق الحكومي مع وضع خطة تحفيزية لاستغلال ودائع القطاع المصرفي في بدائل تنموية آمنة وإعادة النظر في الأصول الحكومية غير المستغلة وتشغيل المصانع المعطلة وتحويل قناة السويس الي منطقة اقتصادية للخدمات اللوجستية عالميا بالإضافة الي إعادة النظر في الحوافز الاقتصادية والضريبية وربطها في الاساس بمؤشرات العائد الاستثماري والقيمة المضافة. إن مصر تحتاج الآن الي أفكار ابتكارية لمعالجة هذه الأزمة الاقتصادية وقد يكون من بين هذه الافكار بيع الارضي استثمار للمصريين في الخارج وتوحيد سياسة المعاملة التعريفية بين السائح المصري والسائح الاجنبي داخل مصر لهذا، فالحكومة المصرية ومجلس الشعب مطالبان بشن حملة بعنوان "اشتري المصري" للحد من الواردات الاجنبية الاستهلاكية وسد العجز في ميزان المدفوعات المصري والميزان التجاري وتوفير فرص عمل وزيادة الناتج المحلي الإجمالي وتوفير المدفوعات من النقد الاجنبي مع التأكيد علي انه لا يمكن القبول بأي شكل من الأشكال بأن تمس سيادة الدولة المصرية أو كرامتها لأي سبب ما من الأسباب في مرحلة اعادة البناء التي تجتازها مصر حاليا فشعار "نبني مصر بأيدينا" هو ركيزة النمو القادمة . كما يجب هنا التركيز علي أن هناك قصورا في إدراك أهمية التعرف إلي مواطن الفساد في الإدارة والاقتصاد ودورها في توليد وزيادة مشاعر الإحباط لدي المواطنين، لا سيما لدي الشباب منهم.. وهذه كلها أمور تزيد من الأسباب الداعية إلي الفشل في تحقيق التوقعات وبالتالي إلي زيادة حدة اليأس والشعور بانسداد الأفق. علي الرغم من التحديات الكبيرة أمامنا، فالجميع يتطلع إلي المرحلة المقبلة بتفاؤل وأمل كبيرين، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة، وتحفيز التنافسية العالمية للاقتصاد من خلال تحديث الاقتصاد وتطوير المناهج التعليمية بحيث يتمكن الشباب من المنافسة محليا وعالميا، إضافة إلي إيجاد فرص عمل جديدة والحد من البطالة والفقر.. ولعل الإفادة المثلي من المرحلة الراهنة تتطلب التوازن بين تطوير البيئة السياسية من جهة، وبين تطوير آليات ومحركات النمو الاقتصادي المستدام والرفاه الاجتماعي للشعب من جهة أخري.. فنجاح الإصلاحات السياسية مرتبط إلي حد بعيد بنجاح الإصلاحات الاقتصادية، والعكس صحيح أيضا. إن الإصلاح هو الركيزة الأهم لبناء الثقة كممر إلزامي مثالي لبلوغ الاستقرار الحقيقي وتعميم فوائده، وهذا ما نطمح إليه جميعا دولة وشعبا وأنظمة.. والإصلاح بمفهومه الشامل علي الصعيد الوطني هو المسار الأمثل لإعادة صياغة خريطة طريق طموحة الرؤي والأهداف لمنظومة العمل علي نحو يضمن التنمية المستدامة.