لماذا تبدو نتيجة انتخابات المجلس التأسيسي مفاجأة للتونسيين والمراقبين في شتي أنحاء العالم؟ .. فحركة النهضة تحالفت مع قوي يسارية وأحزاب صغيرة لتجني فوزا بغالبية نسبية، في وقت خاضت أحزاب أخري منافسة لها بدون القيام بأي تحالفات أو تنازلات! وما يهمنا أن العملية الانتخابية تعطي لمصر دروسا إيجابية وأخري سلبية في سنة أولي ديمقراطية، في تونس الثورة: الأولي هي ضرورة خروج الناخبين بعدد واسع (90%) لأن المشاركة الواسعة هي الضمانة الوحيدة للديمقراطية الحقيقية ولعدم احتكار السلطة من قبل فصيل أو حزب بعينه، ولولا هذه المشاركة الواسعة لكانت نسبة فوز النهضة قد تجاوزت ال 50% بكثير، كما أن التونسيين المهاجرين لهم 18 مقعدا في المجلس التأسيسي لأول مرة، وهذا من شأنه أن يشجعنا علي إعادة النظر في مشاركة المهاجرين المصريين الذين ظلوا مهمشين علي امتداد عقود سابقة. أما الدروس السلبية في نظري فتتمثل في أن هذه النتيجة سوف تمد الاخوان والسلفيين في مصر بأنفاس قوية وتمثل لهم إلهاما مثلما شكلت الثورة التونسية إلهاما للثورة المصرية.. وعموما وجود فرحة بل ونشوة لأول انتخابات ديمقراطية في المنطقة برمتها، لا ينفي وجود توجس وحيرة سياسية، فقد فتحت كل الفرضيات علي مصراعيها، فالثورة التي قادتها تونس - وألهمت الشعب المصري والليبي، ثم اليمني والسوري - أصبحت تعني وصول الإسلاميين للحكم، وبعد النهضة فإن الاخوان في مصر قادمون إلي البرلمان بأغلبية بعد تحالفهم مع قوي سياسية قومية وليبرالية ويسارية كما إن الإسلاميين يخططون الآن لمستقبل ليبيا، ولكن لطالما شكلت الثقافة المصرية حتي في أضعف أوضاعها حالة تنويرية جنبا إلي جنب مع الثقافة التونسية فهل تتواري تلك النزاعات التنويرية في المنطقة؟! ويبدو إن قطار العرب وصل إلي محطة الإسلاميين في سدّة الحكم، فهل يمثل التيار الإسلامي الفزاعة والبعبع لشعوبنا؟ لو استبعدنا القوي اليسارية التي نجحت في قوائم النهضة نتيجة التحالف فإن الوزن الحقيقي للنهضة حسابيا يقدر بنحو ثلث المجتمع التونسي، وهم بالطبع لا يرونها بعبعا، بل يريدونها أن تحكم البلاد، لأسباب مختلفة، منها التأكيد علي أن تونس لها هوية إسلامية تستعيدها الآن، وهو ما جعل صوت النهضة هو الأقوي في الانتخابات، والثلث حتي يصل إلي نصف عدد مقاعد المجلس التأسيسي فإنه يظل يبحث عن التحالف مع قوي سياسية، من أجل تحقيق الأغلبية النسبية! ولا يخفي علي المراقبين إن هناك عددا كبيرا من الذين صوتوا للنهضة لا تربطهم علاقة سياسية بالحركة لكنهم فقط يظنون أن النهضة هي الأقدر علي كشف الفساد السابق وتحقيق الشفافية، وتطهير الإدارة من فلول النظام السابق والحرامية.. ولا يمكن أن ننسي أن جزءا من التعاطف مع النهضة يعود أيضا إلي عرض فيلم كرتوني إيراني مدبلج بالعامية التونسية يقال إنه يشكك في الذات الإلهية في قناة "نسمة" قبل الانتخابات بأسبوع واحد، كما سبق أن بثت القناة مسلسلا رمضانيا تضمن تجسيدا للنبي يوسف عليه السلام، وهوجمت القناة حيث احتج عشرات الشباب علي تلك العروض وقد جلبت هذه الأحداث تعاطف ناخبين من أوساط الناس البسطاء الذين يغيرون علي دينهم، ليعطوا أصواتهم لقوائم النهضة في الانتخابات. في كل الأحوال، يبدو أن النهضة بدأت مرحلة حكمها الآن ولابد أن يكون الرهان علي أن تبدأ تونس مرحلة تداول السلطة بشكل حقيقي، وهذا يعني أيضا ضرورة المراجعة بالنسبة للأحزاب الأخري المفترض أن تقوم بهذا التداول والتي وقعت في أفخاخ شائكة وضعتها وتضعها النهضة مجددا، مثل الجدل المغلوط والمتعمد حول العلمانية واستغلال فشل المشروعات العروبية في الوطن العربي للتنفير من القوميين ومن الليبراليين علي نمط عهد بن علي الذي أثبت فشلا ذريعا لا ختياره التنمية العرجاء بدون جناح الديمقراطية والحريات.. وما أشبه هذه القضايا بما تشهده الأجواء المصرية من جدل عقيم ومغلوط، ولابد أن ننتبه إلي سلبية أخري كشفت عنها الانتخابات ألا وهي إن الأحزاب اليسارية، وكأنها فوجئت بوزنها الحقيقي خلال الانتخابات دون تقدير مسبق، حيث حصلت أفضل قوائمها علي نحو 13%، وهي تتحمل المسئولية عن ذلك الفشل، فلا يمكنها أن تحصد دون أن تزرع فالأحزاب الصغيرة من ناحية أغرقت السوق السياسي بدكاكين صغيرة أما الأحزاب الكبيرة فلم تعمل للم الشمل ورأب صدع الانقسامات والتشرذم، حتي تقوي وزنها الانتخابي. وتبقي الحيرة مستمرة: هل النهضة تستطيع أن تحترم الحريات الفردية في تونس، هل يعكس الدستور القادم آراء وتوجهات جميع التونسيين وليس الإسلاميين فقط، هل تكون مدة المجلس التأسيسي سنة مثلما أعلن من قبل؟ هل تحافظ علي حقوق النساء وتنبذ الجهويّات والنعرات الدينية والمذهبية؟ هل تحتكر القرار منفردة في غرور أو تؤسس لشراكة حقيقية مع جميع الأطراف السياسية والمدنية لبناء تونس، خاصة إن الجو العام يشجع علي العمل المشترك والتونسيو