.. وسيكتب عنك يا ولدي من اقترب منك ويعرفك ومن لم يقترب ولا يعرفك. وستهب الصحافة - يا ولدي - وتعد الملفات عنك وعن مؤلفاتك وبعد قليل تفتر وتدخل زوايا النسيان فهذا دستور الصحافة وهي لا تخجل من ذلك لا تدهش، فمن يتذكر الآن يوسف ادريس إلا أسرته ونفر من محبيه؟ ومن يتذكر صلاح عبدالصبور إلا ابنتيه؟ ومن يتذكر أحمد بهاء الدين الا زوجته وابنه زياد وشقيقته ليلي؟ صحيح الحزن يبدأ كبيرا ثم يصغر مع الأيام، ونحن نذرف الدموع علي موتانا ثم تجف الدموع ولا يجف الحزن. أنيس منصور، واحد من أعمدة الفكر في عالمنا العربي وليس في مصر فقط، كان يردد دائما في جلساته الخاصة معي "اذا مات رجل له بصمة في المجتمع فالموت ليس مشكلة"، أراد أنيس أن يقول: "لا يهم الموت ما دامت تترك بصماتك فهي التي ستبقيك حيا"، وأنيس منصور - بمؤلفاته وابحارات عقله - سيعيش وإن ذهب الجسد وصعدت الروح إلي بارئها، لعل أمتع لحظات العمر أن تجلس مصغيا لمفكر، وكان أنيس أستاذا في فن الحكي ولا يباريه أحد ولم يكن ما يحكيه مجرد سرد حواديث لكنها كانت مشبعة بفكر عميق بسيط يصل إلي أي إنسان، هكذا كانت طريقته.. فهو يسرب لنا نكتة أو قفشة ذكية ضمن ما يحكيه وكان هو مؤلف قفشات تناقلها الناس، وأنيس الذي يكتب في الأهرام كل يوم جمعة كلمات لاذعة عن المرأة وسنينها ليس هو أنيس منصور الذي أعرفه كعاشق صبابة للمرأة بدءا من حبه لأمه وانتهاء بالفاضلة "رجاء حجاج" زوجة الكاتب الكبير الذي تفاني في حبها وسهر الليالي بجوارها وهي مريضة. أنيس منصور، غاب عنا، غاب عن عدد قليل من الأصدقاء، كانت تجمعنا جلسة ودية تجمعني: كاتب هذه السطور وأحمد رجب ود.زاهي حواس كنا نلتقي في فندق ماريوت وكان أنيس - القلق القلوق - أول من يحضر ثم يصل زاهي حواس ثم أحمد رجب، كنا - زاهي حواس وأنا - نصغي بحب وشغف لأنيس وأحمد رجب وهما يتذكران الماضي البعيد - أيام شبابهما - ومقالب في كمال الملاخ ثنائي أنيس ، كنا - زاهي وأنا - نقطع استرسال القطبين الجميلين أنيس وأحمد رجب - بأسئلة عن أم كلثوم ومصطفي أمين وأسمهان أو مصطفي أمين وهيكل أو كمال الملاخ وعلاقاته النسائية أو مصطفي وعلي أمين وجمال عبد الناصر وكان يجيبان بافاضة ومتعة ومعرفة بتاريخ لم ينشر. غاب أنيس ولا أظن أننا ستطبق الجلسات بعده. سيغيب عمود "مواقف" لأنيس منصور فسوف يفتقده الناس فهو "فنجان قهوة الصباح الفكرية"، و"رغيف أفكار التأملات اليومية". وسوف يكتب آخر هذا العمو، فتلك سنة الحياة، وسوف يعيش أنيس في وجدان الناس بكتبه ورحلاته في الجغرافيا والتاريخ ويلتفت الناس للعمود الجديد ويقارنون في البدايات ثم ينسون المقارنة لكني أشهد أن أنيس الأسلوب والشخصية كان فريد عصره وزمانه.