في تقديري أن الإجابة الصريحة عن هذا السؤال تفسر إلي حد كبير العديد من الظواهر التي تطفو علي مسرح الأحداث منذ اندلاع الثورة وحتي الآن. من الصحيح أن هناك مصالح للنظام السابق وأتباعه ومن الصحيح أن الثورة ليس لها قائد أو قيادات ومن المؤكد أن هناك قوي خارجية إقليمية ودولية تخشي تبعات الثورة وتأمل في ألا تصب هذه التبعيات في اتجاه يعوق مصالحها وخططها.. ولكن يبقي أن كل ذلك لا يقدم لنا تفسيرا مقنعا لما نشاهده من فوضي فكرية وتشتيت في الرؤي وتخبط في المسارات وهي فوضي لا تقل خطورة عن الفوضي الأمنية التي تضيف إليها وتتكاتف معها وتدفع مصر الدولة في مسارات لا يعلم إلا الله خطورتها وانعكاساتها علي المستقبل القريب قبل البعيد!! وعودة إلي محاولة الإجابة عن سؤال عنوان المقال أقول: إن الثورة التي بدأها شباب متعلم أتاحت له وسائل الاتصال الحديثة فرصة الاطلاع علي كم هائل من تدفق المعلومات والبيانات والتحولات الاجتماعية والسياسية والطموحات الديمقراطية في كل أنحاء المعمورة فاستوعبها وتمثلها وحلم بها وجرت في دمائه وامتلأت بها عروقه وعقله وقلبه ووجدانه فاستلهم كل مخزون طاقاته وهيأت له ظروف القهر والاستبداد والتعالي التي صاحبت أداء النظام السابق التربة الخصبة التي فجر فيها هذا الشباب مخزونه مستخدما أيضا وسائل اتصال تناسب عصره وزمانه أمام فريق غير معاصر وغير مستخدم لهذه الأدوات وغير مقدر لإمكاناتها وقدراتها فكانت المواجهة بين التقليدي والمتطور وبين القديم والحديث بين المحافظ علي ما يملك ومن لا يملك شيئا سوي الرغبة في الكرامة والعدل وحلم التغيير. رجحت كفة الشباب عندما ساندتها العديد من قوي المجتمع المحرومة من حقوقها المادية والاجتماعية والسياسية والقانونية، ثم كان الموقف الشجاع للقوات المسلحة التي آمنت بالثورة ووقفت معها تحميها وتساندها.. فكانت الضربة القاضية التي أسقطت نظام هيمن علي مقدرات البلد لمدة ثلاثين عاما بقبضة من حديد. ولكن تبقي عدة ملاحظات مهمة ربما تساعد علي الإجابة علي التساؤل المطروح وتفسر الحالة المزاجية للمجتمع المصري حاليا نوجزها فيما يلي:- الملاحظة الأولي: أن هناك مجموعات كبيرة مصرية لا يمكن أن نشكك في وطنيتها وحبها لبلدها لم تشارك في الثورة.. بل أذهب إلي أبعد من ذلك أن هناك مجموعات كبيرة أيضا لا يمكن أن نحسبها من فلول النظام السابق تشفق علي الوطن من تداعيات الثورة وينضم إليها جماعات ليست من الفلول أيضا تعودت أن تمارس حياتها وأعمالها في ظل ظروف حياتية مستقرة وهادئة بعيدا عن نمط جديد متغير ليس له من الملامح علي الأرض ما يمكنها من الحكم علي نجاحه أو فشله ولا ترغب أن ترهن مستقبلها ومستقبل أولادها بمجهول ليست له معالم واضحة وصريحة.. وهناك جماعات ليست من الفلول أيضا قد ارتبطت مصالحها وأعمالها بأنماط من السلوك اعتادت عليها طوال 30 عاما أو قل 40 عاما من وقت الانفتاح الاقتصادي لا تعرف غيرها أو لا تريد غيرها بديلا. الملاحظة الثانية: أن الشباب الذي بدأ الثورة وفجرها وهو بلا شك محل ثقة من معظم فئات المجتمع فيما يتعلق بنزاهته وصدق نواياه وشرعية طموحاته ليس في الحقيقة محل ثقة العديد من أفراد المجتمع في إمكاناته علي القيادة وتحمل مسئولية وطن كبير بحجم مصر وأعبائه ومشاكله وخصوصا أنه قد أبعد عن المشاركة الحقيقية في ظل النظام السابق ولم يأخذ فرصته في المشاركة السياسية الحقيقية. الملاحظة الثالثة: أن غالبية الشعب المصري وهم من يطلق عليهم "حزب الكنبة" علي قناعة بأن الثورة في سبيلها إلي السرقة من أصحابها إن لم تكن قد سرقت بالفعل من جانب قوي مختلفة سواء كانت قوي إسلامية أو ليبرالية أو علمانية بعد أن تواري نسبيا دور الشباب من الساحة السياسية قياسا بدورهم في بداية أيام الثورة. الملاحظة الرابعة: أن هناك نهماً غير مسبوق علي المستوي المادي من جانب أصحاب المطالب الفئوية وعلي المستوي السياسي من جانب الأحزاب والقوي السياسية لتحقيق طموحات ومطالب قد طال انتظارها والحرمان منها لعقود طويلة.. هذا النهم بدأ يأخذ من رصيد فكرة الثورة وأحلام المواطن المصري في مستقبل أفضل له ولأبنائه.