أضحك كثيرا عندما أمسك في يدي أي نقود معدنية، فالجنيه صار يذكرني بمصروف يدي أثناء طفولتي، ومازلت أضحك حين كان القرش صاغ الذي أتلقاه من أمي يشتري كل تلك الاشياء، يكفي انه كان يشتري من الكانتين سندوتشين أحدهما من الفول والآخر من الفلافل، وأنا مدمن لكل من النوعين "الفول والفلافل"، وحاليا يخرج الجنيه من جيبي فلا يشتري سندوتش فول واحداوحين أقارن الجهد المبذول في سادوتش الفول قديما بالجهد المبذول في سندوتش الفول المعاصر، أكتشف الفارق بين ضآلة كمية الفول والسلطة في السندوتش المعاصر بالنسبة للسندوتش القديم. ودائما ما تطل تلك الحقيقة في رأسي وأنا أشاهد معارض الفن المعاصرة، فأجد بعضا من الفنانين وقد طالهم عبث تعبئة قماش اللوحات بالالوان، وضآلة الاحساس بجوهر الفن، وهي الدفقة التلقائية الروحية التي تنبع منها الرغبة في رسم لوحة ما، فضلا عن الاحكام في أداء اللوحة بما يفرضه موضوعها. كل ذلك دار في رأسي وأنا أخرج من معرض الفنان الرائق البال سمير فؤاد وهو واحد من أبرز تلاميذ العبقري الراحل حسن سليمان، حيث كان حسن سليمان يملك أصالة الدفقة العاطفية مصحوبة بإتقان شديد التوهج في أداء أي لوحة. أما إخلاص سمير فؤاد لعمله كمصور يملك الحساسية شديدة الخصوصية لرسم الحركة في اللوحة فهو إخلاص واضح في كل لوحاته، ولكن هذا الاخلاص صار مشوبا بالتركيز علي المهارة الفائقة، وندرت في اللوحات تلك الدفقات العاطفية التي تشعل الحوار بين العين واللوحة. صحيح أن سمير فؤاد لا يقلد أحدا وقد وصل إلي أسلوبه الخاص في التصوير، وصحيح أيضا أن أعماقه تحاول إيقاظ الدفقة العاطفية المطلوبة لكل لوحة، فجاء معرضه الأخير في قاعة بيكاسو نموذجا فريدا لجفاف الروح مع تجلي المهارة، ولكن لابد من أن نشهد للوحتين اثنتين بالجمال الفائق حيث تتوازن المشاعر مع المهارة في إبداع ظاهرة وهي لوحة القبلة، ولوحة الطبيعة الصامتة لزجاجات علي المائدة. ولكن لابد أن نتذكر جراءة الحاج إبراهيم بيكاسو عندما استقر رأيه علي إقامة هذا المعرض حيث ترتفع أسعار اللوحات بما يفوق خيال أي مقتن، وكأن سمير فؤاد يعشق لوحاته فيرفض بيعها، لأن فراق أي لوحة هو فراق قصة حب، ولا يمكن أن نصنع مسدسا من أوراق نقدية نقتل بها من نحب، وصحيح أيضا أن براعة سمير فؤاد وإحساسه بخصوصية ما وصل إليه من أسلوب مميز كانت تفرض عليه أن يرسم فقط حين تزدحم روحه بالموسيقي، ولو فعل ذلك لرأينا معرضا يندر وجود مثيل له، اللهم إلا معرض عبدالله جوهر الذي لم يزره العديد من تلاميذ هذا الأستاذ البارع والمؤسس لفن الحفر وهو المعرض المقام في قاعة المغربي.. هل كان القدماد يملكون الولاء للوحة أكثر من الولاء لأي شيء آخر؟ هنا قلت إجابة عن هذا السؤال: يبدو أنك صرت عجوزا تطلب اتقان صناعة سندوتش الفول وتطلب الصبر علي بناء لوحة تتوازن فيها دفقة الإبداع مع المهارة الفائقة. قلت ذلك للحاج إبراهيم بيكاسو وغرقنا في الضحك، ولكن ضحكتي شابها خيط من دموع علي الأزمنة القديمة. منير عامر