حين تُخرج أمي الدفتر من درج الدولاب، أعرف أنني سأذهب مشواراً ل «لَمْ الفلوس»، فلوس أبي المدونة في الدفتر بقلم كوبيا، لكل عميل صفحة مكتوب اسمه أعلاها، ثم نوع المشتريات: خمسة أمتار تروكلين أبيض، ثلاثة أمتار ونصف المتر لينو الشوربجي، أربعة أطقم داخلية.. فانلة وسيلب، بيجامة كستور، خمسة أمتار تيل نادية، اثنان مرتبة بسمة، ثلاثة أمتار وتربروف. مُدرج ثمن كل نوع مضروباً في عدد الأمتار أو القطع، ثم شرطة كبيرة أسفلها كلمة «جملة» أمامها قيمة المبلغ بالأرقام. كنت اقرأ بأحرف كبيرة أسماء العملاء: الأسطي زين أبو المعاطي، الأسطي فاروق صابون، الحديدية أم محمد، أحلام الرمالي، أم يسر. كان أبي يشتري البضاعة بسعر الجملة ويبيعها بالتقسيط، يسافر إلي المحلة والدقهلية وشارع الأزهر بالقاهرة ليأتي بما طلبه العملاء، أو بما يمكن أن يبيعه لهم، دأبت أمي علي القول أن أبي لو عاش لكان له شأناً كبيراً ولصار أفضل من فلان وفلان، علي انني كنت صاحب فكرة نوتة لكل واحد بدلا من استخدام الدفتر المهترئء. أحمل النوتة وأنطلق بعد أن أتفق مع أمي علي المصروف. أفيش سينما اللبان الذي يتم تغييره كل يوم اثنين، وصورة بطلي الخارق بعرض الواجهة، مطلوب حيا أو ميتاً، جوليانو جيما، وحزام الرصاص المحكم علي مؤخرته، لا يمكن إفلات هذا الفيلم، المصروف سيغطي بالكاد ثمن التذكرة، وثمن سندوتش الطعمية الذي يعلن عنه «جودت» أثناء العرض واحتدام المعارك. سندوتش نصف خروف بقرش ونصف القرش، المرعب في الأمر أنه كان عليّ الذهاب إلي أحلام الرمالي، الساكنة في الدور الثاني، وأن أمر بمدخل البيت المظلم، أختار أن أذهب أولاًً إلي الأسطي زين مفصلجي الأحذية، كان دائما يبتسم، كان طويلاً عريضاً وله شارب دوجلاس أسود، يكون جالساً خلف منضدة واطئة، ومنحنياً علي قالب خشبي يثبت عليه جلد وش الحذاء بالمسامير، حين أدخل من باب الدكان يرفع رأسه عن الحذاء فأراه مبتسماً، يقول لي: ازيك، ثم يفتح درجاً صغيراً ويخرج جنيهاً لونه أخضر، يطبقه ثم يمد يده به إليّ قائلاً للمرة المائة: أنت في سنة كام ؟ أمد يدي بالنوتة وأقول: في ثالثة ابتدائي، يأخذ النوتة، يخصم الجنيه من الحساب، ويكتب التاريخ والباقي وهو يقول: وإنت شاطر في المدرسة واللا هتطلع مذهباتي زي إخواتك؟ أقول له: يعني نص نص، يمد يده بالنوتة، وأمد يدي لآخذها، يهبط فجأة بيده كأن النوتة ستسقط علي الأرض، أهم للمرة المائة لألحق بها قبل أن تسقط فإذا به يرفعها كالعلم بيده الأخري وهو يقهقه، يعطيني قرشاً ويقول: سلم علي أمك، لا تغادر الابتسامة وجهه، كأنه ولد مبتسماً، آخذ الجنيه أضعه وسط النوتة، وأضعها في جيبي الخلفي ثم أغلق الجيب بالزرار. أنطلق إلي محل الغزل بشارع الجلاء لأشتري «كلوكلو»، آخذ القرطاس المثلج وأذهب لأطمئن علي أفيش السينما، لم يعد سوي الحديدية وأحلام، أمشي من أمام جراج السيسي مخترقا حارة معري ومنها إلي حارة نعيم، أُخبّط علي الباب الصاج المتآكل الحواف، تخرج الحديدية العجوز، تقول: عايز إيه يا وله، أقول: بتقولك أمي لسه ربع جنيه، تشتمني وهي تضحك: ربع جنيه في عينك إنت وأمك، ثم يرق صوتها وتقول: قول لأمك الجمعة الجاية أحسن الأسطي علي عيان. أمشي من عندها وأنا أقول في سري إنني لن أذهب للحديدية مرة أخري، وأن علي أمي إن كانت تريد الربع جنيه أن تذهب بنفسها إليها. أصل إلي شارع رمسيس، أتوقف أمام باب أحلام، كانت لم تتزوج رغم أنها جميلة جداً، أخوها أباظة الذي يعمل في فابريكة زجاج السبيلجي، ويرتدي عفريتة زرقاء فوقها مريلة من المشمع ويرتدي جزمة بلاستيك تصل إلي ركبتيه، عنده كلب شرس، ما أن أدخل من باب الشارع وأنادي أبلة أحلام حتي يروح الكلب ينبح، يكاد يقطع السلسلة ويقفز عليّ ليمزقني، وفي يوم كان الكلب مفكوكاً، لحظة رآني، راح ينبح بجنون ثم قفز في الهواء واستقر فوقي حين تمددت علي الأرض. أقف علي بعد مترين من باب الشارع وأنادي: أبلة أحلام، تخايلني صورتها في ظلمة المدخل،ترفع شعرها الغزير بذراعيها العاريتين وتتركه يسيل علي ظهرها ولا ترد عليّ