حملتُ اللفة الصغيرة، وخرجت من البيت، نبّهت عليّ أمي أن أضغط علي الجرس مرة واحدة، وأن أنتظر، وأن أخلع حذائي قبل أن أدخل، وأن أُسلم الأبلة «أنهار» اللفة، وحين أستلم النقود أضعها في جيبي وأعود سريعاً، ذلك أن أمي ملتزمة بسداد أقساط «التابعي » المقاول الذي بني حجرتين فوق السطح، انتقلنا إليهما، وقامت أمي بتأجير شقة الدور الأرضي كحجرات مستقلة، بعد أن أدخلت جزءا من المنور في الشقة، وجعلته حجرة صار اسمها «الأودة السمبوكسة» لوضعها الأقرب للمثلث، معللة ذلك بأن دفتر أبي سينتهي، وأنها لن تجلس متفرجة، علي أن جدتي «ياسمين» اقتحمت علينا البيت في يوم، ودفعت باب الحجرة ونحن نائمون، البعض علي السرير، والبعض علي الأرض، صرخت في وجه أمي: أنت عاملة في العيال كده ليه؟ كانت قوة جدتي المعروف عنها سلاطة اللسان، أنها اختارت ألا تأخذ ميراثها في والدي، قالت أمي: كوم لحم ماحدش عاملهم حاجة، ثم قالت: مش هأكلهم طوب، صمتت أمي هنيهة ونظرت لجدتي وهي تجهش بالبكاء: بدل ما أروح أشوف حالي، أشاحت جدتي ياسمين بيدها وخرجت. علي أن الوضع كان مؤقتاً لأنني وفريدة وزين وأمي كنا ننام في الحجرة الكبيرة، ثلاثة علي السرير، وواحد علي الكنبة، وينام أخواي الكبيران سعيد وراضي في الحجرة الأصغر المجاورة للحمام علي كنبتين اسطنبولي مفروشتين بالمراتب والمساند. راحت أمي تعمل في مهنة أبي، تلتف في ملاءتها السوداء وتمسكني من يدي، تأخذني معها إلي الشارع التجاري، تقابلنا في الطريق نساء كثيرات، يحيّن أمي: صباح النور يا أم سعيد أنت مابتجيش ليه، أكون مركزاً في الكلوكلو الذي سنمر عليه عندما نحود من أمام«السرس» ثم معرض موبيليات منسي، ومن هناك إلي شارع الجلاء. كانت أمي تضم الملاءة السوداء علي صدرها بحيث لا يبدو منها شيء، كانت خالتي «أم العز» حين تزورنا تقول لي أمك فلاحة والفلاحات لا يرتدين الملاءات، فقط الجلابيب الملونة، والقُرطْ أوالإيشاربات علي الرأس، وتروح تجرّب الملاءة ونحن نضحك، أسير إلي جوار أمي، أسمعها تسب رجلاً اقترب منها وهو يميل رأسه تجاهها، أقول: هوده مين؟ تقول بنرفزة: جحش ما اعرفوش، وأمام «الكبّاس» قابلنا رجلاً آخر قال بصوت مسموع: هوانا في كل خرابة أشوفك، رغم أننا لم نكن نسير في خرابة، انفلتت أمي إلي الجانب الآخر من الشارع وهي تقبض علي يدي، كانت أمي جميلة لها شعر أسود كثيف- في البيت- تفرقه من الوسط وتجعله ينهمر علي الجانبين، وهي تقول هو ده شعري؟ ده نصفه راح. تشتري لي قرطاس الكلوكلو، أمسك القرطاس بيد ويدي الأخري في يد أمي، أتذوق طعمه وهو يسيح تحت لساني، وقطع الشوكولاتة الهشة تتكسر في فمي. قبل أن ندخل الشارع التجاري أكون قد انتهيت من الكلوكلو، ندور علي المحلات، كل محل تدخله أمي أجد صاحبه يعرفها، يقول لها: ازيك يا أم سعيد، تجلس أمي علي الكرسي، في حين يقيس صاحب المحل الأمتار المطلوبة بالمتر الخشبي ثم بالمقص المغروس بين لفات «الأتواب» يقص لها المطلوب، تسلمه النقود لينزّلها من الحساب،غير أنني في مرة سمعت أحد أصحاب المحلات يشكو من واحدة دون ذكر اسمها، ويقول إن مشيها وحش، ويقول لأمي: أنت بميت راجل. لم أعرف من هذه التي تكلم عنها الرجل، خرجنا إلي الشارع، حملت لفة القماش في يدي الخالية، رحنا ننتقل من محل إلي محل وأمي تسأل عن شيء يندهش أصحاب المحلات حين تسأل عنه،هي نفسها لم تكن تعرف عنه غير اسمه تقول بتعثر بنطلون «هلانكا» إلي أن وصلنا نهاية الشارع وظهرت المئذنتان العاليتان لجامع البحر بينهما القبة الضخمة، كنت قد تعبت، أخذت مني لفة القماش وقالت: آخر محل ونروّح. دخلنا محل خردوات، سألت صاحبه: ماتعرفش ياخويا منين أجيب بنطلون هلانكا، نظرهوالآخر بذهول: لمين يا أم سعيد؟ قالت: لزبونة. قال بارتياح: مش هتلاقيه إلا عند معاطي، دعت له بالستر، وانحرفنا إلي ممر جانبي، كان الزحام كثيفاً وعلي الجانبين محلات صغيرة تفرش معروضاتها في الممر، كنا نسير مابين المعروضات من نجف وتحف ولوحات مرسومة، وستائر وأثواب أقمشة، دخلنا إلي محل صغير، خلف البنك يجلس رجل سمين، كان أتخن رجل رأيته. قال: ازيك يا أم سعيد أخيراً جيتي؟ ثم نادي علي صبي ليحضر شاياً، أقسمت أمي أنها لن تشرب شيئاً، سألته عن البناطيل الهلانكا، ابتسم معاطي وهو يقول: طلبك عندي.