بينما نحن منشغلون بمعارك وهمية إذا بنا نستيقظ علي كابوس مروع حركت خيوطه في أعالي النيل عصابات الاحتلال الصهيوني التي تركناها تمرح فوق أرض فلسطين بلا حساب، حتي صارت تهددنا في أعز ما نملك "نهر النيل"، المورد الوحيد للمياه العذبة في مصر، وصاحب أول درس كانت أعيننا تتفتح عليه في الصغر "مصر هبة النيل". ليس مصادفة أن يكون وزير خارجية تل أبيب المتطرف، أفيجدور ليبرمان، الذي هدد علانية بتدمير السد العالي وإغراق مصر بمياهه، فهو نفسه الذي يقود جهود هذه المؤامرة مع حلفائه في دول حوض النيل، حتي ليستطيع أن يقول ميليس زيناوي، بفضل جهوده وفي جرأة غير معهودة: "أن تحاول إيقاف ما لا يمكن إيقافه"، معتبرا أن الظروف التي كانت سائدة في السابق "تغيرت وإلي الأبد"، تلك الظروف التي هدد بمقتضاها الرئيس أنور السادات بضرب أثيوبيا عام 1978 إذا لم تتوقف عن بناء أحد السدود، ثم لم يكن بوسع أديس أبابا إلا أن ترضخ. فإسرائيل لن تغفل عن العرب والمسلمين مهما غفلوا عنها، والمؤامرات التي تحيكها ضدهم لا يمكن أن تتوقف، والتآمر هنا ليس تهمة توجه جزافا إلي تل أبيب بل صار واقعا معاشا ومسلسلا مستمرا لا تنتهي حلقاته وإلا ما الذي يضطر مجموعة من الدول المثقلة بمشكلات لا نهاية لها إلي اختلاق أزمات والدخول في مواجهة بهذا الحجم مع مصر والسودان ومن ورائهما العالم العربي مالم تكن مدفوعة بإغراءات لا سقف لها؟! خاصة في ظل انعدام حاجة هذه الدول للمياه التي دخلت الصراع تحت لافتتها. فبينما تعتمد مصر علي مياه النيل في سد احتياجاتها بنسبة 95%، تمثل هذه النسبة لاثيوبيا 1%، وكينيا 2%، وتنزانيا 3%، والكونغو 1%، وبوروندي 5%، حيث تملك هذه الدول ما يزيد عن حاجتها من المياه نظرا لكثرة البحيرات العذبة والأنهار وهطول الأمطار فوق أراضيها، إذ يتجاوز إجمالي حجم مياه الأمطار التي تهبط داخل حوض النيل 1660 ملياراً مكعباً، حصة مصر منها لا تزيد علي 5.55 مليار متر مكعب، والسودان 5.18 مليار متر مكعب، أي لا يستغل من هذه الكميات الهائلة سوي 4% في حين يضيع الباقي دون فائدة نتيجة التبخر أو ضياعه في المستنقعات والأحراش. ظلت إسرائيل تعمل في الخفاء علي مدار عقود تتحين خلالها الفرص للتحريض علي حصة مصر من مياه النهر، وقد تحركت في هذا الإطار علي أكثر من صعيد: دوليا لتغيير القواعد القانونية المعمول بها في توزيع مياه الأنهار عالميا، فأدخلت عبر جهود واشنطن والبنك الدولي مفاهيم جديدة، مثل "تدويل الأنهار" و"تسعير المياه"، أي جعل المياه سلعة تباع لمن يدفع الثمن، ولو لم يكن من دول حوض النهر كإسرائيل نفسها، واقليميا بدفع الدول الأفريقية إلي إلغاء الاتفاقات السابقة مع مصر والسودان، انطلاقا من حجج واهية، ثم مدها بالخبرات اللازمة لبناء السدود وتحويل المياه إلي أراضيها لإقامة مشاريع زراعية وتوليد الكهرباء. والتآمر الصهيوني علي مياه النيل قديم قدم الأحلام الصهيونية بإقامة دولة تمتد "من النيل إلي الفرات" ولذلك وضعت الحركة الصهيونية مخططات مبكرة للسرقة والتحكم في مصادر المياه بالوطن العربي وبينما حفرت إسرائيل بالفعل عدداً من الآبار العميقة "800 متر من سطح الأرض" علي الحدود لسرقة مياه سيناء، طرح أحد المهندسين "اليشع كالي" عام 1974م تخطيطا لنقل مياه النيل إلي الكيان الصهيوني، نشره تحت عنوان "مياه السلام" وكان يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها، علي أن تنقل هذه المياه أسفل قناة السويس بعد اتفاقيات السلام، إلا أن ذلك لم يحدث حتي الآن، وربما يكون وقوفها خلف هذا التمرد من قبل دول حوض النيل بمثابة بدء الخطوات العملية لتنفيذ هذا المخطط علي الأرض حيث اتجهت السياسة الإسرائيلية لتركيز جهودها علي دول حوض النيل من أجل الالتفاف علي الرفض المصري. وأخذ التغلغل الإسرائيلي طريقه إلي مفاصل أفريقيا بهدف تطويق المد العربي والإسلامي من الجنوب، والاستفادة من الثروات، والحصول علي تسهيلات عسكرية، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وذلك بالتزامن مع حصول الدول الأفريقية علي استقلالها، وفي هذا الإطار وظف الصهاينة أشطة ومجالات مختلفة: العلاقات الدبلوماسية، والتبادل التجاري، وتوريد الأسلحة، ومجالات الري والزراعة وإدارة المياه، وشركات الأمن، والمساعدات الإنسانية، وتصدير الزهور، واستخراج الذهب والماس، واستغلال الصراعات، حتي أصبحت القارة السمراء مرتعا للخبراء والدبلوماسيين ورجال الموساد والتجار والعسكريين الإسرائيليين.