ودراستي الدقيقة لهذه القرارات واللوائح ينتابني الإحساس بالمرارة لما يشوب بعضا من هذه القرارات واللوائح من سوء الصياغة وركاكة المعني وغموض المغزي. حينما أطالع وأحلل هذه القرارات واللوائح، أجد أننا أمام ظواهر ثلاث: أولاها، وكأن مصدري هذه القرارات واللوائح يعانون من الإسهال التشريعي المزمن، وأما الظاهرة الثانية، أن هذه القرارات جاءت في مجملها غير مكتملة، وكأنها نصف تشطيب. وأما الظاهرة الثالثة، فهي تعارض ظاهر هذه النصوص في عدد من الحالات مع الغايات والمقاصد التي صدرت من أجل تحقيقها. فأما عن الظاهرة الأولي، وتتمثل في غزارة هذه القرارات علي حساب المضمون، فإن تفسير هذه الظاهرة في رأي يتمثل في وجود اعتقاد خاطئ لدي صانعي القرار في غير قليل من الحالات أن حل المشاكل القائمة، ووضع حلول للمعضلات الحالية لا يكون إلا من خلال إصدار قرارات جديدة وتعديلات علي كل ما هو قائم، وهو اعتقاد يشوبه الخلل في العديد من الحالات. فإصدار القرارات "عمال علي بطال" يؤدي إلي مزيد من التخبط، سيطرة لبيروقراطية، وإطلاق العنان لتفسيرات غير منطقية. فالأهم والأولي هو التطوير المؤسسي، وتفعيل النصوص القائمة والتخلص أو التقليل التدريجي من كل ما هو غير ضروري ولوزارة التجارة والصناعة تجربة لا بأس بها في هذا الشأن، وإن لم تكتمل بعد، حينما صدر قرار بإلغاء جميع القرارات التي لم تعد ذات محل، أو تتعارض مع ما صدر حديثا، أو تخالف توجهات الوزارة الاستراتيجية، وهذا لا ينفي أنه هناك مشاكل الا يمكن مواجهتها لا بقرارات ولوائح بل وتشريعات جديدة، ولكل الحل ليس بالضرورة كل مرة في إصدار قرار أو قانون جديد. وأما الظاهرة الثانية، وهي ظاهرة القرارات واللوائح نصف التشطيب، فإنه لا يخفي علي كثير من رجالات القانون، أنه بمجرد مطالعة بعض القرارات واللوائح الصادرة مؤخرا يستشعر المتخصص وغير المتخصص بالقدر الكبير من "العجلة" و"السريعة" التي أصابت صانعي ومصدري هذه القرارات واللوائح، فصدرت غير مكتملة الملامح والشخصية، وكأن ثقافة النصف التشطيب التي انتشرت في مجال التنمية العقارية قد انطبعت علي لوائحنا وقراراتنا التنفيذية، فجاءت في بعضها متبسرة، وفي البعض الآخر متناقضة. فالحاجة إلي التطوير وثبات أن هناك تحريكا للمياه الراكدة، تدعو أحيانا إلي الاستسهال من خلال إصدار قرارات، وللأسف الشديد، فإن من هذه اللوائح تخرج مبتسرة غير مدروسة مفتقرة لأبسط قواعد الصياغة، فتصدر ركيكة الصياغة ضعيفة المضمون. وأما الظاهرة الثالثة، وهي أخطر هذه الظواهر، وهو تعارض الغايات والمقاصد من هذه القرارات مع ظاهرة نصوص هذه القرارات واللوائح. فيتضح انقطاع الصلة بين واضعي السياسات من ناحية، والقائمين علي صياغة هذه السياسات في قوالب لائحية تنظيمية كانت أو تنفيذية من ناحية أخري. ولا يصلح في بعض الأحيان أية تفسيرات أو منهج غائي يعمل علي تفعيل المعاني والمقاصد من هذه النصوص إزاء عوارها وتناقضها البين. ولعله من الأمور الملفتة للانتباه، ظاهرة أخري تتمثل في تعدد الجهات الاستشارية في مجال إعداد القرارات واللوائح التنفيذية ومشروعات القوانين. فلدينا قسم التشريع بوزارة العدل، وقسم الفتوي والتشريع بمجلس الدولة ولهما خبرة كبيرة، وحصن لا يهين من الخبرة والدقة، إضافة إلي وزارة الدولة للشئون القانونية والمجالس البرلمانية، كما أنشئت لجنة عليا للتشريعات الاقتصادية اختفت في ظروف غامضة ناهيك عن لجان متعددة بكل وزارة علي حدة وما تتضمنه كذلك كل وزارة أو هيئة من جيش من المستشارين وأحيانا تعمل أكثر من جهة علي مشروع مختلف متصل بذات الموضوع والأمثلة عديدة، والنتيجة تشتت الجهود، ناهيك عن غياب استراتيجية موحدة بشأن السياسات التشريعية والقانونية، وتوهان أصحاب القدرة ونري التخصص في تيه ودواليب العمل داخل هذه الجهات. والمحصلة صفر في غير القليل من الحالات. وإلي جانب ما تقدم، وطالما أننا نتحدث عن الجوانب القانونية للوائح والقرارات التنفيذية، فإن لي بعض الملاحظات عن التعليم والتدريب القانوني بشكل عام في مصر وكذلك بعض الملاحظات المرتبطة ببعض الممارسات المرتبطة بالعمل القانوني والحقوقي.