في قلب يوليو من كل عام تتيقظ رحلة الانتصار والانكسار التي عاشها المخضرمون من أمثالي، وأعني بها رحلة ثورة يوليو 1952. وأضحك من قلبي حين أتذكر قول أستاذي العظيم الراحل فتحي غانم الروائي الفذ، وهو يقول لي أثناء نقدنا لثورة يوليو بعد هزيمة 1967 "لماذا تنسون أن الشعوب حين تندمج في رحلة البناء قد لا تلتفت لكل التفاصيل" لماذا لا تنسون أن عرابي باشا لم يستفد تماما من رحلة محمد علي مؤسس مصر الحديثة، وأعني هنا أن عرابي لم يعتمد علي العلم في مواجهة الاحتلال الانجليزي، كما اعتمد محمد علي علي مواجهة عنصرين أساسيين لتخلف مصر المحروسة، وهما المماليك، ثم عدم انتباه الأزهر لقيمة العلوم المعاصرة، لذلك قرر محمد علي إدخال التعليم المدني، طبعا بعد أن أباد المماليك. وحين جاءت ثورة عرابي لم ينتبه الرجل إلي قيمة العلم الاستراتيجي في مواجهة الخصم الانجليزي، بل أقام حلقات الذكر، ولم يغلق القناة في وجه الانجليز، ولو فعل لما جرؤت انجلترا علي مهاجمة الإسكندرية، وحين جاء مصطفي كامل من بعد عرابي لم يستفد من تجربة عرابي في صهر المصريين داخل بوتقة المصرية"، بل نادي بالانتماء للامبراطورية العثمانية، وهو ما لم يجذب المصريون إلي صفه علي الرغم من محبتهم له. وحين جاء سعد زغلول من بعد ذلك، قام باهدار ما أيقظه كل من عرابي ومصطفي كامل في قلوب المصريين، ولكنه كان أول من حصل علي توكيل رسمي من عموم المصريين بأنه ممثل للشعب المصري، وحين جاء جمال عبدالناصر، قام بانتقاء بعض من أحلام مصطفي كامل وبعض من أحلام عرابي ولم ينتبه إلي قيمة ما أرساه سعد زغلول من ضرورة الحصول علي تأييد المصريين عبر وثيقة مكتوبة، بل اكتفي بما أحاطته به الجماهير من محبة وتآزر أثناء تأميمه لقناة السويس ثم بنائه للسد العالي، ولم يلتفت إلي أن تلك العمليات التي خرجت بمصر من وضع القرية الصغيرة خلف البحر المتوسط إلي الدولة المؤثرة في ثلاث قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وصارت مصر في مواجهة مع القوي الكبري العالمية دون استعداد للمواجهة، بدليل هزيمة يونيو كانت هزيمة افتقاد روح العلم في مواجهة أصحاب الانجازات المتقدمة تكنولوجيا؟ كان فتحي غانم مؤمنا بأن ترميم الأحلام الرائعة عن طريق الإرادة الوطنية تقتضي أن نفهم حقائق قدراتنا، لنرسم الطريق إلي ما نريد. وجاء الرئيس السادات من بعد جمال عبدالناصر ليرسي هامشا ديمقراطيا أخذ في الاتساع من خلال الرئيس مبارك. ولكن بقي أمامنا مهمة ترميم الأحلام وإعادة صياغة أحلامنا علي ضوء الحد الأدني المقبول عربيا، لأن العرب يفقدون مكانتهم عندما تتزعزع مكانة مصر وأن مصر تفقد تأثيرها عندما تذوب إرادة العرب في المخاوف. وكلما جاء يوليو أحلم بأن نتوقف عن لطم الخدود واظهار المثالب والعيوب، ونلتفت إلي ضرورة رؤية علمية لمثالب الآباء والأجداد، ومميزات ما أضافوه لنا. تري هل نستطيع؟ مازلت أحلم.