لقد صار معروفا أن الأزمة الأمريكية بدأت في وول ستريت عندما اكتشف أساطين المال فجأة أن حيلهم لتفادي المخاطر قد فشلت وأن مؤسساتهم قد اخفقت وأن المشتقات التي ظنوا أنها عصيبة علي أية صدمة قد تحولت إلي كارثة، وقد أدت الأزمة إلي تدمير ثروات بتريليونات الدولارات وتجميد أسواق الائتمان وانتشار الأوجاع في كل قطاعات الاقتصاد. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن الركود الأمريكي بدأ مع نهاية عام 2007 وتحول الأمر بعد ذلك إلي ركود عالمي، وربما يختلف قول من يستحق اللوم في شأن هذه الأزمة.. هل هم رجال المال الذين خانتهم مهارتهم؟ أم جهات الرقابة الحكومية التي أهملت في أداء دورها؟ أم المستهلكون الذين أسرفوا في الاقتراض؟ أم السياسيون الذين أتاحوا تملك المنازل لشرائح من الناس لا تستطيع المحافظة عليها؟ الحقيقة أن المسئولية موزعة علي هؤلاء جميعا إلي ما خلقوه من فوضي أفضت إلي الأزمة المالية والركود الاقتصادي. وتقول الأرقام إن أمريكا منذ عام 2007 فقدت خمسة ملايين وظيفة، وأصبح 15% من إجمالي قوة العمل الأمريكية إما في حالة بطالة سافرة أو مقنعة أي نحو 25 مليون عامل، وأصبحت الصناعات الوحيدة التي تزيد فيها مخصصات الأجور هي الرعاية الصحية والمرافق والحكومة الفيدرالية، وفقدت أسهم الشركات الأمريكية المسجلة في البورصة 57% من قيمها في مارس الماضي بالمقارنة إلي الذروة التي كانت قد وصلت إليها في أكتوبر 2007 وإن كانت قد استردت بعض عافيتها في الأسابيع الأخيرة، أما الانتاج الصناعي فقد انكمش حجمه 12،8% خلال العام الأخير حتي شهر مارس وهو اسوأ انكماش من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية، ويتوقع مارك زاندي الخبير الاقتصادي في موديز أيكونومي دوت كوم أن يؤدي الركود إلي انكماش الاقتصاد الأمريكي في مجمله بنسبة 3،5% هذا العام بما يخلق اسوأ بيئة أعمال يشهدها القادة التنفيذيون للشركات في حياتهم علي حد قول ليني ميندونكا رئيس مجلس إدارة مجموعة الأبحاث مكنزي جلوبال انستينيون. وتجدر الاشارة إلي أن المأساة قد عمت كل قطاعات الاقتصاد، وعلي سبيل المثال فإن شركة فنادق ماريوت انخفض إيرادها عن كل حجرة بنسبة 25% وهي نفس النسبة التي كانت قد خسرتها إبان أحداث 11 سبتمبر، أما صناعة السيارات التي كانت تنتج 17 مليون سيارة سنويا قبل الأزمة فإن مبيعاتها هذا العام لن تتجاوز نصف هذا الرقم، وبينما وضعت جنرال موتورز تحت طائلة قانون الحماية من الإفلاس وجري دمج كرايزلر مع فيات الإيطالية بقيت فورد الشركة الوحيدة من الثلاثة الكبار التي يمكن أن تنجو من الأزمة وهي علي شكلها الراهن. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن الظروف الصعبة عادة ما تصاحبها مشاعر صعبة، فقلة فقط من الأمريكيين هم الذين يفهمون سبب حدوث هذا الركود المؤلم وبعضهم يبحث عن كباش فداء يحملها المسئولية، والسياسيون سعداء بدور السمسار الذي يقومون به إزاء هذه الظروف، وقادة الشركات يتعرضون للتوبيخ علي الملأ في البرامج التليفزيونية.. والرئيس الأمريكي يتهمهم بالجشع، أما الكونجرس فلم ينقطع فيه اللغط حول مخالفات قادة الشركات. وفي مناخ من هذا النوع يتضرع رجال البيزنس ألا تدوم هذه الاتهامات والتهديدات أو تنتشر، ولكن ما نود أن نقوله ان ما له بداية ستكون له نهاية وأن الشركات الأمريكية سوف تسترد تألقها، صحيح أن شركات كثيرة ستموت ولكن الشركات الناجية ستكون أرشق وأقوي مما كانت عليه من قبل، ومن المتوقع بطبيعة الحال أن ينكمش نصيب القطاع المالي في مجمل الاقتصاد الأمريكي وأن يستمر هذا الانكماش لعدة سنوات قادمة، وبالمقابل ستزيد أهمية الشركات غير المالية وتزيد قدرتها علي جذب أفضل المواهب، وستظل أمريكا أفضل مكان علي الأرض لممارسة البيزنس إذا ما قاوم الرئيس أوباما والكونجرس رغبتهما في التدخل وامتنعت النقابات العمالية عن المبالغة في دورها. كما أن الأزمة الراهنة ستكون لها ميزاتها دون شك حيث إنها ستؤدي إلي اختفاء أساليب الإدارة السيئة لتحل محلها أساليب أجود، كما أن المبتكرات التكنولوجية ستأخذ فرصتها في التقاط الأنفاس. وخلال العامين القادمين ستكون الشركات الأشد معاناة هي الشركات ذات التكاليف العالية والديون الثقيلة وغير القادرة علي تلبية احتياجات المستهلكين واجتذاب نقودهم من جديد. بقي أن نقول إن الزمن يتغير والشركات تتغير معه. ففي عام 1955 أي منذ 54 سنة تقريبا اختارت مجلة "تايم" هارلو كيورتيس رئيس جنرال موتورز ليكون رجل العام. ووقتها كانت شركته تقود أمريكا إلي نظام اقتصادي جديد. أما الآن فقد أطيح بقيادة جنرال موتورز بعد اتهامها بسوء الإدارة وكان الذي أطاح بهذه القيادة هو الرئيس أوباما رجل العام في مجلة "تايم" أيضا خصوصا بعد أن أعلنت جنرال موتورز إفلاسها وأصبحت الحكومة تملك 40% منها علي الأقل والخوف الأكبر الآن هو أن تمتد هذه اليد الحكومية ليكون لها دور في قطاعات أخري من الاقتصاد الأمريكي. وهذا احتمال لم يعد ممكنا استبعاده بسهولة.