الطب أصبح "بزنس"، هذه حقيقة، ولا تحتاج إلي تأكيدات. فالأطباء أصابهم ما أصاب المجتمع من أمراض الجري وراء الربح مهما كانت الوسيلة وتراجع في المقابل ذلك الجزء الإنساني والقيمي، الذي هو في صميم هذه المهنة بالتحديد، والتي يبدأها أي طبيب بقسم أبو قراط المبني كله علي فكرة الخدمة، وتفاني الطبيب في علاج المريض، وعدم تباطئه في ذلك. لكن الحالة الآن عكسية فالمريض يفني من أجل الطبيب! ولدينا يوميا مشاهد لهذا التحول الخطير، الذي يصبح مؤشرا للخطر عندما يصل إلي "ملائكة الرحمة". فطبيب الأطفال الذي كنت أضع فيه ثقتي، وأدفع الفازيتة المرتفعة راضية مرضية علي أمل أن يقدم أفضل تشخيص، وأحسن علاج لأولادي، لم يعد يتردد في أن "يأمرني" بأن اشتري المضاد الحيوي وبقية الأدوية في الروشتة الطويلة التي كتبها من الصيدلية الفلانية، ويحددها بالاسم، ويزرع في نفسي الرعب من بقية الصيدليات تحت نغمة أنها تبيع أدوية قديمة، ومضروبة. ثم :ألاحظ أن روشتات هذا الطبيب تسجل في سجل خاص بالصيدلية، وعرفت بعدها أن الأمر متعارف عليه بين الأطباء والصيدليات، حيث يتقاضي الطبيب نسبة علي كل روشتة يبيعها الصيدلي، وطبعا كلما كانت الروشتة كبيرة والقيمة مرتفعة، استفاد الطرفان.. و"يا عيني علي المريض!". وهناك طبيب آخر من أشهر أولئك الذين ذاع صيتهم في الحميات الغذائية، وخاصة لأمراض السكري، والسمنة عموما، وذهبت إليه بدافع السمعة الكبيرة التي يتمتع بها بين أطباء هذا المجال الذي انتشرت فيه التجارة بشكل غير مسبوق.. وقد كتب لي عقاراً أربكني بشدة عندما تناولته. وقد قرأت عشرات الصفحات علي مواقع صحية في الإنترنت عن الآثار السلبية لهذا العقار.. وحاولت أن أوضح وجهة النظر هذه للطبيب، لكنه "رأسه وألف سيف" أنه مهم جدا في حالتي وبدون أضرار، فاضطررت إلي إيقافه بمفردي، ودون الرجوع إليه بمنطق بسيط "ما يتعبك بلاش منه" خاصة بعد حالات القيء والإسهال التي سببها لي، ولكني بعد ذلك توقفت تماماً عن الذهاب إلي ذلك الطبيب عندما شاهدته، وبالصدفة، بأم عيني، يقف داخل جناح لنفس شركة الأدوية التي تنتج ذلك العقار، ويشارك في الحملة الإعلانية للترويج له.. وكان ذلك في شرم الشيخ. وقد أدركت لماذا كان الطبيب مصراً علي صرف ذلك العقار لعملائه، فالعداد بيحسب، والحساب البنكي يزيد، وصحة العملاء تصبح أمراً ثانوياً أمام كل تلك الحسابات المادية. وقد قمت بتحقيق نشر في العالم اليوم "الأسبوعي"، علي امتداد عدة أعداد حول لبن الأطفال، وكانت هناك أزمة في توفيره استمرت من منتصف التسعينيات وحتي وقت قريب. وكشفت خلال تناول هذه القضية، أن فساداً كبيراً يشهده هذا القطاع، بسبب المناقصات وترسيتها، وأن غالبية الأطباء في اللجنة التي تشكلها وزارة الصحة للبت في المناقصات يذهبون هم وعائلاتهم إلي رحلات خارجية وداخلية علي حساب تلك الشركات التي تتقدم للحصول علي جزء من حصة السوق. وبالمناسبة الحصة تحسب بملايين علب اللبن المجفف للأطفال. وهو مدعم من وزارة الصحة ومن الدولة. وقد قال لي أحد الأطباء الكبار في مصر: إن هذا الوضع ليس مقتصرا علي مصر، وإنما "بزنس" الدواء والصحة عموما ظاهرة عالمية، وربما تزيد هذه الظاهرة في بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية، خاصة وأن التأمين الصحي معمم، والدول والحكومات تدعمه بمبالغ ضخمة، حتي إن هذه القضية أصبحت في ملعب السياسة وتدخل في منافسات الأحزاب للفوز بالانتخابات. ولعلي لا أتردد في وضع قضية أنفلونزا الخنازير في هذا السياق، خاصة وأن كل الأطباء في العالم يؤكدون أن فيروس الأنفلونزا العادية يفوق في خطورته أنفلونزا الخنازير، بل إن عدد المصابين بالأنفلونزا العادية الذين يلقون حتفهم، كبير جدا ولا يقارن بالفيروس الجديد. ورغم أن بعض الأقلام الصحفية وبعض الأطباء يقولون رداً علي هذا الطرح بأنه لا دليل علي أن هذه القضية "بزنس * بزنس" إلا أن الدليل الواضح في رأيي هو مبيعات عقار التامفلو التي تتزايد في إطار الهلع العام، حتي أن الحكومات تتسابق لامتلاك أكبر كمية ممكنة تحسباً لأي انتشار واسع للمرض. لكن إذا تساءلنا عما يمثله هذا الفيروس مقارنة مثلا بمرض الملاريا الذي يصيب سنويا 500 مليون شخص منهم 880 ألف مصاب يلقون حتفهم وذلك وفقا لاحصائيات حديثة لمنظمة الصحة العالمية، والأخطر من المرض نفسه هو ما يواجهه العلماء والباحثون من مقاومة الملاريا للعقاقير.