قد نتفق أو نختلف علي فترة حكم عبد الناصر، والأخطاء التي ارتكبت خلالها. لكن أعتقد أن هناك شبه إجماع علي صدق عبد الناصر ونظافة اليد التي تميز بها ونزاهته. كان رئيس جمهورية غير عادي في مواقفه السياسية، لكن عاش مواطن عادي وبطريقة تشبه الكثير من أبناء شعبه. وعندما تحدثت ابنته مني عبدالناصر عن والدها، في برنامج اختراق، مع الإعلامي اللامع عمرو الليثي، دخلت إلي القلب وأعادت إحياء تلك العواطف الجياشة تجاه زعيم عربي، أباً عادي جدا. ربما لا يستطيع الكثيرون أن يتخيلوا أو يصدقوا أن رئيس جمهورية في مكانته لم يوفر لأبنائه مسكناً، وعندما طلب من "المقاولون العرب" أن يبنوا بيتين لابنتيه هدي، ومني.. كان ذلك بالتقسيط.. ولم يكمل سداد الأقساط لأن المنية عاجلته. لقد عاشت مني في بيت إيجار بالجيزة بعد زواجها من أشرف مروان، وعندما حان وقت الوضع وكانت حاملاً في ابنها البكر جمال، انتقلت لتسكن في بيت منشية البكري مع أسرتها. الأغرب أن مني تزوجت بدون "شبكة".. وقد ذكرت بكل تلقائية وصدق: "منين.. أشرف مكانش عنده.." وأخذت بنصيحة والدتها، تلك الأم المصرية الأصيلة التي لم تتصرف كسيدة أولي، وزوجة الرئيس، بل كأم بسيطة يهمها مصلحة ابنتها، وقيمة الحب الحقيقي، فقالت لها: الشبكة والذهب، سوف توضع في الدولاب بعد شرائها.. لكن الزوج الذي تحبينه وتختارينه ستنظرين إليه يوميا إلي جانبك" وانحازت بذلك إلي اختيار ابنتها، ولم تهتم بالمظاهر الزائلة وأعطت ابنتها خاتم السوليتير الخاص بها لتلبسه خلال حفل الزفاف. ولا أنسي ما قالته مني عبد الناصر، عندما حكت كيف كانت تهرب من الحراسة، وتركب مترو مصر الجديدة لتذهب لزيارة صديقتها، أو للدخول إلي السينما.. وعندما زادت تجاوزاتها، اشتكاها الأمن للرئيس عبد الناصر. قال لها: لو اتخطفتي وفاوضوني عليك، أنا لا أتفاوض.. سأتركك.. وهتحرقي قلب أمك عليك" كان للنظام أيامها خصوم كثيرون وكان يخشي استهداف عبد الناصر من جديد.. في شخصه أو في أبنائه. تلك كلمات قالها رئيس أب لابنته، بصدق، ولم تكن للاستهلاك الإعلامي.. وإلا كنا سنقول إنها دعاية للنظام، وبروباجندا لعبد الناصر. هذا الرئيس وعائلته كانوا يعيشون بطريقة بسيطة، وغير متكلفة، ربي أولاده علي قيم صعيدية ظل يؤمن بها ولم يتغير بالمنصب، أو الكرسي. فكان يعلمهم ألا تمتد أيديهم لشيء لا يملكونه وليس من حقهم، "لأن ذلك يقلل من قيمتهم"، فلم يملكوا مجوهرات أو مقتنيات بل حتي مني نفسها تمنت علي والدها أن يشتري لها "حلق" لتلبسه في الفرح وكهدية منه، وكانت مشكلة عويصة لولا أن حلها المشير عامر الذي تولي شراء الحلق! لم يكن عبد الناصر يحب الماكياج في وجه المرأة عموما، ولدي بناته بشكل خاص، كما لم يكن يحب الملابس القصيرة، لذلك أوجد تقليداً أن تمر عليه ابنته قبل الخروج من المنزل "لتضرب تعظيم سلام".. وكان كثيرا ما يأمر "مني" بتغيير ملابسها لأنها ترتدي "جيبة قصيرة"، وكانت الملابس القصيرة بالمناسبة موضة أيامها، كما كان كثيراً ما يأمر "مني" أيضا بأن تغسل وجهها لتتخلص من الماكياج قبل أن تذهب إلي الجامعة أو أي مشوار آخر. إن رئيس الجمهورية، رغم انشغالاته الكثيرة وهموم الوطن، حريص علي متابعة سلوك أولاده، بل والجلوس معهم مجتمعين لتناول الطعام، وللاستماع إلي آخر الأخبار بما في ذلك النكت المنتشرة والقفشات الموجودة في الشارع والتي كانت تخصص "مني".. لأنها هي "الشِرّحة" كما كان يطلق عليها. واستعجل عبد الناصر عقد قران ابنته مني.. فقد أخذ منها وعدا ألا تقابل أشرف بمفردها، ولكنه اكتشف مرة انهما كانا في ركن من حديقة بيت منشية البكري يجمعان ذرة، فأمر بأن "يكتب كتابها بسرعة" فهو الأب الصعيدي الذي رغم عاطفته الجياشة تجاه ابنته المدللة، كان حريصا علي العادات والتقاليد وعلي الحفاظ علي ابنته من أية مغريات أو فتن. لن أقول أين نحن من هذا الرئيس.. بل سأقول أين نحن من هذا الأب؟! إن الآباء في مجتمعنا لم يعد لهم أي دور في تربية أبنائهم.. في معرفة أين يذهبون، كيف يلبسون، متي يعودون إلي المنزل، ماذا يشترون، كيف يفكرون، وكيف يتصرفون.. الآن غالبية الأبناء "علي حل شعرهم". هذا هو عبد الناصر الذي أحبه، رغم أني ربما لم أعش إلا التبعات السلبية لعصره، وآثار النكسة.. التي أعتقد انها مازالت مستمرة. ** حِمل ثقيل أرملة في منتصف الثلاثينيات من عمرها فقدت زوجها مؤخرا، ولديها 3 أبناء أكبرهم في العاشرة من عمره، جميعهم في المدارس، وليس لديها مورد رزق.. كما انها لم تتعلم مهنة معينة. وهي في حيرة بسبب الضائقة المالية، كيف ستدفع مصاريف المدارس، وإذا دفعتها بفضل "أولاد الحلال" هذا العام، ماذا ستفعل في السنوات القادمة؟ وكيف ستنفق علي ضروريات الحياة ومعها ثلاثة أبناء يحتاجون رعاية من مأكل وملبس؟! إن الدنيا مظلمة أمامها، وتنتابها حالة من اليأس والقنوط، فالحِمل ثقيل، ولا تدري كيف تتصرف. وقد فكرت بعد قراءة حالتها في كتابة هذه السطور.. ربما نتوصل إلي تخصيص مبلغ شهري من خلال تبرعات "الطيبين" من أهلنا. شاركوني [email protected]