كان التليفزيون ينقل لي صورة الأستاذ الدكتور محمد غنيم مؤسس مركز الكلي والمسالك البولية في جامعة المنصورة، وكان الرجل يصر علي دخول غزة كي يساهم بإجراء أي جراحات تفيد في زمن غزة القاسي والمهين لكل العرب من المحيط للخليج. وقلت لنفسي: متي يصدق العرب أن مصر دولة لها مشكلاتها، وأن أبناءها يحتاجون كل خبرة فيها علي الأقل لتنقل مصر من أزماتها إلي أي آفاق جديدة، فليس صحيحا أن حدود مصر يجب أن تستباح، لأن مثل تلك الاستباحة بدعوي القومية العربية يقتضي أن تفتح دول الخليج حدودها لكل العرب دون تأشيرة دخول أو كفيل، فلماذا تغلق كل دولة حدودها ويصبح علي مصر وحدها فتح الحدود "عمال علي بطال". ولم أجد إجابة سوي في وجه شيمون بيريز وهو يعلن ببساطة مطلقة أن إسرائيل من خلال المذابح التاريخية التي قامت بها. إنما تضع اللمسات النهائية في كنس آخر ما أنتجته الامبراطورية العثمانية، ليبدأ شرق أوسط جديد. طبعا غلي الدم في عروقي، ثم زاد الطين قطرانا أشد مرارة علي النفس من تخيل أي أحد، وهو التليفون الذي جاءني ليقول لي إن عبدالعظيم أنيس قد مات. وقد لا تعرف الأجيال الحالية أن عبدالعظيم أنيس هو واحد من أكبر علماء الرياضيات في العالم، وإنه كان أستاذا في كمبردج أثناء عدوان إسرائيل وبريطانيا وفرنسا علي مصر، وهو العدوان الذي قتل فيه شارون علي وجه التحديد وبالوثائق أطباء مستشفي العريش والمرضي واللاجئين وفوق ذلك ثمانية وثلاثين عاملا من عمال التراحيل المصريين كانوا يعملون في موقع صحراوي قريب من العريش. ولم يتحمل عبدالعظيم أنيس هول ما شاهده علي التليفزيون الانجليزي، فقدم ببساطة استقالته، وعاد إلي القاهرة ليخدم في جامعاتها، ولكن اتجاهه السياسي كواحد من كبار مناضلي اليسار المصري دفع به إلي المعتقل ليقضي علي الأقل أربع سنوات في تكسير البارزلت، وحين خرج من المعتقل عاني ما عاني إلي أن قرر جمال عبدالناصر الاستفادة من تلك الخبرات النادرة، فأوكل إليه العديد من المهام الثقافية، وأسندت له وزارة التعليم المشاركة في إعداد مناهج تدريس الرياضيات العالمية، وهي المناهج التي تتطور بها الدول، ولم يكن عبدالعظيم أنيس يفكر أن بعضا من أساتذة تدريس الرياضيات في المدارس، سيحولون رحلة استكشاف المواهب كما شاءها عبدالعظيم أنيس في الأجيال الشابة، سيحولون تلك المهمة إلي "وكر" لاستجلاب دخل الأسر في الدروس الخصوصية، واستمر الرجل يحاول المناداة بتبسيط التدريس لهذا العلم الراقي، ولكن لا فائدة، وظلت مهمة وضع امتحانات الرياضيات في الثانوية العامة هي مهمة تتم تحت إشرافه، إلي أن استدعاه بيت الرئيس السادات طالبا منه إعطاء درس خصوصي للابن الوحيد للرئيس السادات "جمال السادات" ورفض الرجل، فليس من مهمة واضع امتحانات الثانوية العامة أن يدرس لطالب واحد. وقال ببساطة "لا" وهي نفس "لا" التي قالها رافضا الاستمرار في التدريس بلندن، بينما بلده يتم قصفه بالقنابل والطائرات، ونفس "لا" التي قالها رافضا أن يغير من معتقداته اليسارية. ومازلت أذكر ابتسامة الحلم التي كانت تعلو ملامحه حين كنت ألتقي به في المناسبات طالبا إليه أن يضع كتابا يبسط فيه للعامة كيفية فهم الرياضيات العالية، فهي العلم الذي ما أن يتفوق فيه شعب حتي ينطلق إلي تأسيس التكنولوجيا ويسد فجوة التخلف التي يعلن شيمون بيريز أن العرب غارقون فيها، فهم من بقايا الامبراطورية العثمانية، ولذلك يستحقون الذبح. رحل الرجل إلي رحاب السماء، بعد أن ظلت كلمة "لا" هي طوق النجاة الذي أنقذه من أي تدليس أو كذب علي الضمير. وما أفدح الخسارة.