ماذا يحدث حين يحاصر الموت البشر أرضا وجوا وبحرا؟ حين يكون الاختيار بين الموت والحياة، فإن الفرار من آلة الحرب المجنونة يصبح الهم الأول، والوحيد، لمن تحصدهم المجازر. لا المأكل، ولا المأوي، ولا أي من ضرورات الحياة يشغل بال الكبير أو الصغير، إلا ما يمكن أن يساعد علي مواجهة المحنة والنجاة من المجزرة المنصوبة والمستمرة! أي حديث عن اضراب شامل للمحال والأسواق؟ وأي أمل في التعلق بأسباب الحياة في ظل غياب كل مصادر للطاقة مع زحف الشتاء القارس؟ ربما لا يعني أهل غزة، أو لمن تكتب له النجاة من القصف الهمجي المجنون، إلا شربة ماء وكسرة خبز، تمنح الاقدام القدرة علي الحركة بعيدا عن الخطر الذي يحاصرهم من كل جانب. الماء أصبح عزيزا، فهل يكون الدمع بديلا أم أنه جف؟ أما الخبز، فإن البدر ربما يكون أقرب من الرغيف، مع انقطاع امدادات الدقيق والقمح، وانقطاع التيار الكهربائي، وغياب مشتقات النفط! لكن التعلق بالأمل في استمرار الحياة والنجاة من محنة تعيد للأذهان مجزرة دير ياسين- قد يكون الدافع لاصطفاف الطوابير الطويلة أمام ما تبقي من مخابز حاولت عبثا أن توفر الخبز لمن يحاصرهم الموت، ليس فقط بالصواريخ التي تطلقها الطائرات، والزوارق التي تقذف ميناء الصيادين، والدبابات التي تئز جنازيرها بطول حدود القطاع، فالجوع والبرد أيضا تحولا إلي جنرالين لا تقل قسوة قلبيهما عن سفاكي الدماء المحترفين!! القصف استهدف البقية الباقية من مخازن البنزين والسولار.. حتي مستودعات الأدوية كانت هدفا للقصف، فضلا عن ورش الحدادة في القري والمدن والمخيمات!! "الرصاص المنهمر" الاسم الذي اختاره الصهاينة هذه المرة لعمليتهم البربرية، لم يستثن شيئا. الاضراب العام والحداد صبغا المشهد باللون الأسود الذي تقاطع مع الأحمر القاني الذي ينساب انهارا في شوارع غزة وأزقتها. جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان. فهل لعاقل أي يتساءل عن أحوال الاقتصاد في غزة؟! انه اقتصاد المحنة! عمليات القصف العنيف دمرت عشرات الأنفاق، كانت تمر خلالها المواد الغذائية، والأدوية والبنزين والسولار، وغيرها من أساسيات الحياة، ورغم عدم مشروعية الانفاق خاصة إذا كانت تستخدم في التهريب لمواد خطرة، فإنها تبقي شريانا يؤمن بعض الضروريات. اكتملت اللوحة المأساوية، بكل ملامح القسوة والوحشية والبؤس. هل بقي شيء يستهدفه الاجتياح البري للقطاع سوي البشر؟! العقاب الجماعي لمليون ونصف المليون فلسطيني: حصارا وترويعا، وتجويعا، وقتلا، وذبحا، أثمر زهورا سوداء عديدة بيَّنها اقتصاد المحنة!!