في ظل الأزمة المالية العالمية الطاحنة التي أسفرت عن اختفاء العديد من البنوك في الغرب، وضياع النسبة الأعظم من أموال مودعيها، فإن المودعين بالجهاز المصرفي المصري سيشعرون بالغبطة والامتنان عندما يتيقنون بأن أموالهم آمنة ومستقرة وتحت طلبهم في أي وقت، بل ومهما تخطت نسب السحب الأرقام المألوفة المتعارف عليها دوليا بين البنوك، والسبب في ذلك هو حالة السيولة غير العادية للأموال المكدسة بخزائن تلك البنوك، والتي تزيد علي نسبة 48% من إجمالي أموال هؤلاء المودعين، وهي نسبة سيولة عالية للغاية. وبقدر سعادة واطمئنان هذا الجمهور من المودعين علي أموالهم، فإن رجال الاقتصاد سوف يقلقهم كثيرا هذا المؤشر بصورته تلك غير العادية، فهو بذلك يصبح علامة خمول للأنشطة الاقتصادية والاستثمارية وقدم قدرتها علي استيعاب الموارد المالية المتاحة لها في المجتمع بالكفاءة المطلوبة، وما لذلك من تأثير مباشر علي توظيف العمالة وإيجاد فرص عمل جديدة وانعكاسه بالتالي بالسلب علي القوة الشرائية في السوق، فتصبح المحصلة النهائية عدم نمو الدخل القومي الإجمالي بالصورة المرجوة، وبالتالي عدم القدرة علي قيام الأفراد بالانفاق بالشكل الذي يحرك السوق ويفتح شهية رجال الأعمال والمنظمين لتعظيم استثماراتهم، وعندئذ تكتمل الدائرة ونري معدل النمو وهو ينحدر عن المخطط له. ولعل ما يعمق من خطورة أبعاد هذا الوضع أنه في حين تسعي معظم دول العالم لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة تعويضا لندرة المتاح لها من أموال، بالإضافة أيضا لجذب الخبرة وفنون الانتاج المتطورة لكي يمكنها في النهاية تحقيق معدلات نمو مستهدفة من خلال إيجاد فرص عمالة وبعث موجة تنشيطية للسوق، فإنه ومع ذلك كله نجد هنا أن الأموال تحت أبصارنا ولا نمد لها أيدينا. ومما قد يزيد من حدة الحيرة والاضطراب في هذا الأمر هو ما لجأت إليه السياسة النقدية من رفع لسعر الفائدة لأكثر من نقطة علي فترات زمنية، لتعويض أصحاب الودائع عن معدلات التضخم العالية التي ضربت الاقتصاد، رغم ما رأيناه من غلبة العرض النقدي علي الطلب. وعودة لمشاعر الغبطة والحبور لدي المودعين، وإحساس القلق وعدم الرضا لدي الاقتصاديين من جراء حالة تلك السيولة النقدية العالية جدا، والتي لا تجد من يستغلها ويستثمرها ويستفيد منها ويفيد بها من حوله، ولعله يحضرنا هنا تأكيدات العديد من المهتمين بالشئون الاقتصادية وخبرائها بأن معضلة النمو الأساسية للدخل القومي في الدول النامية علي وجه الخصوص إنما تكمن في ضعف المدخرات التي تمثل شريان الحياة للمستثمرين لكي يواصلوا بناء مشروعاتهم وتتداوم مظاهر الحياة، فتنجم عن ذلك إتاحة فرص توظيفية جديدة وتحسين لمستويات معيشية أفضل للوظائف القائمة بالفعل، ومع دوران الآلة الاقتصادية يرتفع إجمالي الدخول المحققة، ومن ثم تزداد القوة الشرائية المتاحة وتمتد لتجذب مزيدا من الأنشطة، فيقبل المستثمرون وتنفتح شهيتهم أكثر وأكثر علي توسعة مشروعاتهم للاستفادة من فرص الاستثمار وتحقيق الأرباح، وهكذا تتدافع دوائر التنمية في شكل موجات متلاحقة لا تنتهي، فإذا كان الأمر عكس ذلك تماما والمدخرات لا تجد من يستثمرها، فإنه يصبح من الضروري جدا بحث أسباب ذلك، وهذا هو ما يدفع إلي طرح الاستفسارات التالية: - هل خلا السوق من الشركات التي تتمتع بجدارة ائتمانية تؤهلها للحصول علي التمويل اللازم من البنوك لمباشرة أنشطتها، سيكون من الضروري بحث أسباب ذلك، وهل هذا يعود إلي عناصر تقييم الجدارة باعتبارها عناصر ذات مواصفات عالمية قد لا يتآلف بعضها بشكل أو بآخر مع ظروف السوق المصري وتركيبته، حيث نجد علي - سبيل المثال - أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي يقل رأسمالها عن عشرة ملايين جنيه تحتل وحدها أكثر من 90% من إجمالي الشركات العاملة في السوق، مما يصعب معه أحيانا إخضاعها لبرنامج تقييم الجدارة العالمي المنشأ.. ومن ناحية أخري ربما تكون هناك مغالاة من التحوط والحرص بخلاف تلك العناصر من جانب مانحي الائتمان، ومن ناحية ثالثة ومن منطق سبر غور النفس البشرية، فقد يكون مازال ماثلا أمام أعين مسئولي منح الائتمان شبح محاكمة البعض من أقرانهم، وأن الخلط بين أخطاء التعامل المهني وجرائم التعدي علي المال العام مازال يثير في الأذهان ذكريات مؤلمة استقرت في أعماق النفوس، وسوف يكون من الأهمية بمكان التعمق ومناقشة جميع هذه النواحي مع جميع الأطراف المعنية.