كيف نأكل؟ وما هي سلوكياتنا الغذائية؟ وهل نظامنا الغذائي صحي، وهل عاداتنا سليمة؟ أطرح هذه الأسئلة بمناسبة أزمة العيش التي سقط في خضمها ضحايا، اجتهدت في حصرهم الصحف، دون أن يصدر بيان من أي جهة رسمية بعددهم! وقد هالني أن نفقد أي مواطن مصري، ونحن في القرن الواحد والعشرين، بسبب معركة علي رغيف الخبز. فهذه فضيحة بكل المقاييس للحكومة، التي فشلت فشلا ذريعا في معالجة هذه القضية. والأخطر ليس فقط انها لم تتوصل إلي حلول، ولكن انها لم تتوقع هذه الأزمة! لدينا اقتصاديون "جهابذة" نحاكي بهم وبخبرتهم نظراءهم في دول العالم المختلفة، بل ويتفوقون.. لكن لم نستفد بخبرتهم في استقراء أزمة خطيرة كهذه.. ولا أدري كيف لم يتوقعوا.. ولم يتنبأوا.. وإذا كانوا قد توقعوا فالمصيبة أكبر لأنه لم يؤخذ برأيهم! والمؤشرات التي من السهل علي أي شخص ملاحظتها منذ أكثر من ثلاثة أشهر هي الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية عالميا ومحليا والتي شملت منتجات رئيسية علي مائدة المواطن، مثل الأرز والمكرونة والزيت وبالتالي كان من الحتمي أن يتجه المستهلك إلي البدائل المتوفرة، والتي ظلت أسعارها ثابتة.. وليس هناك بديل غير العيش، فزاد الاقبال والطلب علي الأفران للحصول علي التعويض الغذائي المتاح. وظهرت الطوابير المزدحمة، والخناقات القاتلة لأن العرض ثابت والطلب مرتفع. وتلك قاعدة اقتصادية بديهية.. فالمواطن الذي كان يشتري رغيفين يستعين بهما مع وجبة المكرونة، أو الأرز، أصبح يشتري عشرة أرغفة لأنها تمثل كل الوجبة، وتخلي عن الباقي لأنه غير قادر علي توفيره. هذا هو التفسير البسيط الذي لا يحتاج إلي عبقرية لفهم تلك الظاهرة الخطيرة لطوابير العيش، وأزمة الرغيف. لكننا كنا نحتاج إلي عبقرية الاقتصاديين "الكبار" داخل الحكومة لكي يتنبأوا ويتخذوا الحلول السريعة قبل أن تتفاقم الأزمة. وأن يقال إنه "كان مستحيلاً التدخل في السوق وتعديل أسعار السلع الغذائية، لأن ذلك التدخل غير مقبول في اقتصاد حر".. فهذا كلام مقنع، لكن الصمت والانتظار ليسا الحل.. بل بالتأكيد هناك وسائل أخري كان لابد من اتخاذها. وحتي أعود إلي سؤال مهم في نظري وهو: كيف يأكل المصريون؟.. فإن الأمر يتعلق بحلول كان لابد من اتخاذها منذ عقود لو كانت الحكومات الذكية تملك خططا، ونظرة مستقبلية واضحة. لكن "لو" لا تشفع لأحد ولا تغفر الأخطاء.. ومن المهم أن يتم النظر في قضية الخبز بشكل جذري منعا لتكرارها. وفي رأيي من غير المعقول أن يتم تركيز الدعم في العيش بما يعني أن الوجبة الغذائية تصبح غير صحية، فهناك انعدام للتوازن الغذائي للمواطن، والمتضرر الأكبر الأطفال، والشيوخ، والصغار بشكل خاص يحتاجون للحليب وللبروتين مثل البيض واللحوم.. وهناك الكثير من الدول الفقيرة والنامية، توجه جزءا من الدعم إلي اللبن، حرصا علي بناء سليم لأجسام أبنائها، رجال المستقبل.. لكن هذا التركيز علي النشويات مثل العيش والمكرونة والأرز سيؤدي إلي أزمة صحية قريباً، حيث سيتزايد أعداد الأطفال والشباب الذين يعانون من سوء التغذية والانيميا ناهيك عن الأمراض. وأتذكر خلال طفولتي وشبابي، اللذين قضيتهما في تونس، أن "المعونة" كانت تصرف لتلاميذ المدارس في شكل حليب، وجبنة، وحكي لي بعض الزملاء أن نفس الأمر كان في المدارس المصرية. ولا أدري لماذا لا نستمر في أشياء حميدة، بل نتراجع للخلف، وأصبحت المدارس تصرف "بسكويتا" للتلاميذ حاليا.. يعني نشويات وسكريات أيضاً. وإذا كان التبرير الوحيد، الذي كثيرا ما استمع إليه من مسئولين عند طرح قضية النظام الغذائي الفاشل في مصر، هو أن الثقافة الغذائية السائدة هنا خاطئة، وأنه لا يمكن تغيير هذه الثقافة فإنني أري أنه يمكن تغييرها.. بل لابد من ذلك، لكن الأمر يحتاج إلي عمل، وخطة طويلة المدي، يستخدم فيها كل وسائل التوعية، وعلي رأسها القنوات التليفزيونية، وخاصة القنوات المحلية، والإذاعة التي تصل إلي مختلف الفئات الاجتماعية بسهولة وفي شتي الأنحاء. إن المواطن المصري ليس "أبو الهول" كما يصوره البعض، لكنه مواطن عادي يفهم ويتفهم إذا تمت مخاطبته بلغة قريبة منه، صادقة، ومحفّزة. ولابد من وضع أنظمة غذائية يتم التوعية بها ليس فقط في برامج المطبخ، والمرأة، ولكن أيضا في البرامج السياسية، لأن الثقافة الغذائية، والعادات تستحق أن تكون علي رأس قائمة الأولويات خاصة إزاء الدعم الكبير المخصص للغذاء. أما تعبير "العيش" الذي يرمز في مصر "دوناً" عن كل بقاع الأرض إلي معني الحياة، فقد أصبح مرادفا للموت! لأن الإنسان يحتاج إلي ربع رغيف في كل وجبة غذائية، إضافة إلي عناصر أخري ضرورية كالألبان والبروتينات والخضر.. وليس أبداً السكر الذي لا يمكن أن نجده في أي نظام غذائي للدول المتحضرة، وإذا اقتصر علي العيش بنسبة غالبة علي بقية العناصر فإن ذلك يعني شيئا واحدا أنه يأكل بشكل خاطئ، وأن ينعدم التوازن المفترض الذي سنجنيه قريباً جداً في صورة أمراض! لذلك لابد أن تعيد الحكومة النظر في توزيع قيمة الدعم علي عدة منتجات والبداية تكون بإدخال اللبن ضمن ميزانية الدعم المخصصة للعيش والبالغة 5.2 مليار جنيه تقريبا. نحتاج حكومة تفكر.. ونحتاج اقتصاديين قلبهم علي البلد، لكن ما نراه الآن فشلا ذريعا مهما كانت المبررات.. أكرر فشلا ذريعا لا يجدي معه القول إن أسعار السلع الغذائية ارتفعت في كل دول العالم، لأنه لم يسقط شهيد واحد في أي دولة أخري، حتي الأفقر منا بسبب ذلك الارتفاع وتأثيره علي الخبز. ** خطبة الجمعة * ككل أمهات البلد.. أفرح بعيد الأم، لأني أشعر في هذا اليوم تحديداً بفضلي علي أبنائي وأسرتي، لأنهم يحرصون علي شكري والثناء علي.. وأشعر أن المجتمع يعترف بجهودي كأم في كل أيام السنة، فيبادر الأهل والأصدقاء إلي تحيتي وتهنئتي.. ولا أظن أن أحداً لا يبتهج بالتحفيز والثناء خاصة الأم العاملة التي تبذل جهودا مضاعفة لخير مسيرتها ومسيرة أسرتها. وقد "نكّد" علي يوم عيد الأم خطيب الجمعة في المسجد المجاور لبيتي في منطقة منشية البكري عندما اعتبر هذا العيد بدعة.. قائلاً إن المرأة كرمها القرآن، ورسولنا عليه الصلاة والسلام ولا تحتاج لتلك "البدعة" التي احتار فيمن سنّها! سامح الله هذا الخطيب الذي يرفع شعار "خالف تُعرف" ولا أدري لماذا عيد الأم، حتي لو كان بدعة، ولكنها جميلة، نرفضه؟! ولكن لا يبدو أن هذا الخطيب وحده الناقم علي هذا العيد.. فهناك أطراف عديدة سارعت إلي طمس معالم هذا العيد، حيث استكثرت علي الأمهات تكريمهن في عيدهن فالحقن بهن الابن البار والابنة البارة، والأب البديل، والأسرة المثالية.. وهكذا يبدو أن القائمة الملحقة ستطول! ولست ضد كل هؤلاء، غير أنه يمكن أن نخصص لهم عيدا في أي يوم آخر. وهذا التفكير إنما يعكس أن بعض "الرجال" المرضي هم الذين يفكرون بالنيابة عن المجتمع. * وقفة: لا تستكثروا علي المرأة يوماً في العام للاحتفال بها فهي تستحق من المجتمع أكثر من ذلك.. فهي نصفه وثلاثة أرباع!!