كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يقول لمساعديه إن المشاكل لا تأتي فرادي وهذه مقولة تصلح ايضا للرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، ففي غضون اسابيع كانت قيادة ساركوزي موضع هجوم من كل الاتجاهات وتقول مجلة "تايم" ان عامة الفرنسيين عرفوا عن حياته الخاصة أكثر مما يجب واصلاحاته الاقتصادية التي يعوزها التأييد الجماهيري تجمدت ولم تثمر حتي الآن، وشعبيته تتراجع بسرعة تسبب الدوار، بل ان كثيرا من الشخصيات المحافظة بدأت تتباعد عن ساركوزي وهي تستعد للانتخابات البلدية المقررة في مارس القادم. ولكن المدهش ان الرئيس ساركوزي لم يهتز امام هذه الانباء السيئة ربما لأنه لم يرتكب حتي الآن اي خطأ استراتيجي مهم، فكل شيء يسير في طريقه علي الرغم من عدم حماس الرأي العام واحتمال ان يحقق اليسار بعض المكاسب في استطلاعات الرأي بل أكثر من ذلك فإن جمهور الهاخبين لايزالون مقتنعين تماما مثلما كان الامر عند انتخابهم ساركوزي قبل 9 أشهر بأن فرنسا بحاجة الي برنامجه الاصلاحي الشامل الذي انتخبوه علي اساسه، لقد وعد ساركوزي الناخبين بعمل اشق واجور أعلي مع تقليص عدد موظفي الحكومة وتشذيب امتيازات دولة الرفاه، وقال ساركوزي ايضا انه سيخفض الضرائب علي الشركات الصغيرة ويبسط اجراءاتها ولاتزال الجموع التي صوتت له مقتنعة بهذا البرنامج خصوصا ان ساركوزي لايزال امامه أكثر من 4 سنوات في قصر الاليزيه يمكنه فيها ان ينفذ اصلاحاته وان تزهر هذه الاصلاحات علي النمو الذي يغير موقف الرأي العام من ساركوزي ويزيد شعبيته مرة اخري. لقد مر ساركوزي بمآزق كثيرة من قبل ففي عام 1990 كان يؤيد ادوارد بالادور وليس شيراك للرئاسة وعندما نجح شيراك غير ساركوزي موقعه وانضم الي مؤيدي شيراك، وفي عام 1999 قاد حزبه الي هزيمة نكراء في انتخابات البرلمان الاوروبي، لكنه ايضا نجا من هذا المأزق والآن بعد ان اصبح علي قمة الحياة السياسية الفرنسية يواجه مأزق انخفاض شعبيته من 64% في سبتمبر الماضي لتصبح 39% فقط في فبراير الحالي، وهناك عوامل كثيرة أسهمت في صنع هذه النتيجة، ولكن أهمها كما يظهر في استطلاع الرأي الأخير هو فشل ساركوزي في تنفيذ إصلاحاته الاقتصادية التي بلغ ضجيجه حولها عنان السماء في الشهور الستة الأولي من حكمه لفرنسا. ويقول جين مارك ليتش الرئيس المناوب لوكالة استطلاعات الرأي "إيبسوس" إن الفرنسيين يشعرون بأن رئيسهم لم يحترم وعوده وأنه يعيش حياته الخاصة دون أن يحفل بما ينبغي عليه أن يفعله لزيادة معدل النمو الاقتصادي ورفع القوة الشرائية وخفض البطالة كما سبق أن تعهد لهم في الانتخابات، ولا شك أن المشكلة الحقيقية هي أن ساركوزي لم يقدم أي إنجاز ولذلك صار الناس يتساءلون هل سيمكنه حقا تغيير مساره؟ وتذكر مجلة "تايم" أن كثيرا من مبادرات ساركوزي قد اخفقت حتي الآن علي الأقل في تحقيق نتائجها المرجوة، فقوانين خفض الضرائب والائتمان التي أصدرها البرلمان في يولية الماضي لم تؤثر كما يجب في جذب الاستثمارات وإيجاد الوظائف، والقانون الذي صدر في أكتوبر الماضي الذي يتيح زيادة أسبوع العمل علي 35 ساعة بالاتفاق بين الشركات والعمال لم يتم تفعيله علي أرض الواقع، أما الصراع مع نقابات العمال وعمال النقل الذي أدي إلي إضرابات نوفمبر الواسعة فإنه لم يحسم حتي الآن، حيث لم يتم التوصل إلي اتفاق نهائي بشأن معاشات التقاعد التي حركت هذا الصراع. وربما كان الرئيس الفرنسي غير محظوظ فهناك عوامل خارج إرادته تدخلت لتزيد الصورة سوءا مثل أزمة الائتمان العقاري الأمريكي وتداعياتها والارتفاع الجنوني في أسعار البترول والمواد الغذائية، وهو الأمر الذي أثر سلبا علي معدل نمو الاقتصاد الفرنسي فلم يتجاوز 1.9% في عام 2007 أي أقل من الحد الأدني الذي كانت حكومة ساركوزي قد حددته لعام ،2008 كذلك فإن تجمد الأجور منذ عام 2001 إلي جانب البطالة قد اصبحا مصدر ازعاج شديدا لجماهير فرنسا ولا يستطيع الرئيس ساركوزي أن يفعل شيئا يغير هذا الوضع. وباختصار، فإن الرئيس ساركوزي لم يتعامل بعد حتي الآن رغم مرور 9 شهور علي انتخابه مع القضايا الاقتصادية الرئيسية للمجتمع الفرنسي سواء نظام المعاشات الذي يوشك علي الإفلاس أو الخدمات الصحية المتدهورة أو نظام التعليم العاجز عن صنع خريجين مناسبين لحاجة أسواق العمل أو الضرائب التي يدفعها العاملون والشركات معا لتمويل الخدمات الحكومية التي تؤثر سلبا علي قدرة فرنسا التنافسية وهذا هو سر التدني الأخير في شعبيته بل إن هناك قناعة لدي بعض الدوائر المحيطة ب "ساركوزي" تري أن الوقت غير مناسب لأية إصلاحات جذرية وأن التعامل بشكل براجماتي مع المشاكل واحدة بعد واحدة مثلما كان يفعل الرئيس السابق شيراك هو البديل المتاح لدي ساركوزي في الوقت الراهن.