الأيام "تفر" أمام عيوننا ونحتفل في نهاية ديسمبر بيوم جديد وعام جديد نفرح ونرقص ونمرح ونضحك ونطرد الأحزان، بينما كان الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب لا يبتهج ويقول كيف أكون سعيدا بعام نقص من عمري؟ بينما كان الفنان التشكيلي الكبير صلاح طاهر لا يغادر بيته ويقاطع الحفلات والضجة والمرح ويجلس في مرسمه متأملا تلك الايام التي فرت! وأنا أميل كثيرا لمنهج صلاح طاهر في الاحتفاء بعام جديد، فالتأمل مهم للغاية رغم أنني لا أمارس اليوجا مثل صلاح طاهر ولكنني أعتبر التأمل لحظة مهمة بعد رحيل عام ومولد عام، هذه الدنيا فيها من يحيا ولا يتأمل، وفيها من يتأمل ولا يحيا، يقول د.مصطفي الفقي: "حجب التأمل عني كثيرا من مباهج الحياة". وقد كتب د. زكي نجيب محمود يقول "بعضا من الحياة وبعضا من التأمل، وبذلك تستقيم معادلة الحياة رغم اني لم اعرف من الحياة الا جانبها الجاد". ذات ليلة رأس السنة قابلت د. يوسف ادريس مفكرنا واديبنا في بيت الفنان فريد شوقي وكان يوسف ادريس يضع فوق رأسه طرطورا كالذي يظهر به الاطفال والشباب.. وضحكت وسألته عن الحكمة في تقليد الصبية فقال: "داخل كل فنان طفل لا يفصح عن نفسه ويظل مختبئا طول العام، فماذا يمنع ان يطل هذا الطفل مرة كل سنة حين تأتي أيام سنة جديدة"؟! وكان نجيب محفوظ يجتمع بأصدقائه سكان الدور السادس في الاهرام فاذا جاءت الساعة الثانية عشرة انصرف عائدا الي بيته..! إن ايام الانسان معدودة، وكان كامل الشناوي يري ان العمر قصير مهما طال واحيانا أفكر في اسلوب عبدالوهاب كيف أفرح بعام انقضي من عمري؟ افكر في لقطة مهمة، ففي طفولتنا نحلم ان نكون كبارا بل نضيف اعواما علي عمرنا وفي كهولة البعض يحزن لان السنين مرت.. جرت بسرعة وتمني عودة الشباب، ان ناظم الغزالي المطرب العراقي القديم يغني "عيرتني بالشيب وهو وقار". انه هنا يرمز الي حلاوة النضج وجمال الشيب.. ان الفنانة الكبيرة سميحة ايوب تعتبر "عمرك هو عمر تجربتك"، وبهذا المفهوم تعتبر سميحة ان قدرة الانسان علي العطاء تحدد عمره..! ليلة رأس السنة يمرح الناس بصورة لا مثيل لها بقية ايام السنة ولكن من الذي يمرح "يقضي السهرة في دبي أو باريس أو في فنادق كبيرة 7 نجوم انهم القادرون"الذين يملكون، أما الفقراء ومحدودو الدخل والموظفون فيقضون هذه الليلة امام التليفزيون أو حين يتسلل النعاس الي عيونهم ينامون.. وفي الصباح يلقون التحية التقليدية "كل سنة وانت طيب"، انهم لا يشعرون انهم خسروا ليلة بهيجة فهم يكتفون بالصحة، تلك القناعة هي زاد الفقراء في ليالي رأس السنة الصاخبة، انهم يعتصمون بحبل الستر وهذا كل شيء، وفي ليلة رأس السنة أري الشموع المضيئة وننسي الدرس الذي تهديه لنا في صمت: ان ننصهر ونضيء الطريق للآخرين.. ويبقي السؤال: ما طريقتك في وداع عام وميلاد عام؟!