تميز عام 2007 بأنه العام الذي صرنا نسمع فيه تعبير "التحرش الجنسي" علي نطاق واسع بعد أن كان هذا التعبير مقصورا علي المجتمعات الغربية، وبعد أن كنا نستخدم عبارات أخري تتحدث عن "المعاكسات" التي كانت تأخذ أشكالا مختلفة بعيدة تماما عن مفهوم التحرش الجنسي بمعناه الجسدي. والواقع أننا أمام أزمة فعلية قد تكلف بلادنا الكثير، خاصة أن هناك دولا أجنبية - كما ذكرت صحيفة "الحياة" الصادرة من لندن - قد بدأت تحذر مواطنيها من النساء من تحرشات الشارع في مصر. ولقد بدأت منظمات المجتمع المدني تنتبه إلي خطورة هذه الظاهرة التي برزت علي السطح بشكل بارز في أعقاب ما حدث أمام إحدي دور السينما في عيد الفطر الماضي، وما قيل عن أنه عملية تحرش جماعي تمت بحق الفتيات اللاتي تصادف وجودهن بالمنطقة. ومنذ ذلك الحين ظهرت الكثير من الدعوات التي تنادي بعودة الانضباط والأخلاف إلي الشارع وارتكنت في ذلك إلي نداءات أخلاقية تذكر الشباب بأن التي تتعرض للمعاكسة قد تكون أمك أو أختك أو زوجتك، وظهرت حملة أخري تطالب الفتيات بأن يقمن بمراعاة مشاعر الشباب ولا يبرزن مفاتنهن ويتوقفن عن ارتداء الملابس المثيرة والبنطلونات الضيقة. والآن نشهد حملة جديدة تحت شعار "لما عكست استفدت إيه" وهي حملة توعوية تزيد في مفاهيمها عن مجرد حث الشباب علي التمسك بالأخلاق إلي تمكين النساء والفتيات من الدفاع عن أنفسهن بتعلم مهارات الدفاع عن النفس. وهي حملات ضرورية ومطلوبة ولكننا لا نعتقد أنها ستحقق الكثير من النجاح داخل الشارع الذي تسوده حالة من اللامبالاة والتبلد تدفعه إلي السخرية والتندر من كل جهد يبذل أو حملة تنظم ولا يتجاوب كثيرا مع هذه النداءات، كما انه يفضل دائما القاء اللوم علي الآخرين معتبرا انه بذلك قد أدي ما عليه وأن القضية لا تعنيه. ومفاهيم هذا الشارع تولدت مع حالة الترهل السائدة وفقدان الأمل في حل قضاياه وهو أمر جعل من الصعب تماما اقناعه بأن الخطر يدق أبوابه وأن قضية مثل التحرش الجنسي لا تتعلق بفئة أو طبقة دون أخري وإنما هي قضية مجتمع بأكمله تتعرض النساء فيه بلا استثناء لمخاطر ومتاعب قد تدفع بنا إلي الوراء كثيرا إذا ما نجحت الدعوات التي تنطلق الآن وتطالب بعودة المرأة العاملة إلي البيت وتحرم عملها وتدفع في اتجاه عدم الاختلاط بين الجنسين ونشاهد من نتائجها ومن انعكاساتها تنامي ظاهرة المنقبات في مهن يستحيل معها النقاب مثل مهنة الطب والتمريض. ولقد بدأت بعض الأسر فعلا في محافظات مصر في منع بناتهن من ركوب القطارات المتجهة إلي المدن وحيث توجد الجامعات الإقليمية بعد أن زادت حوادث التحرش في هذه القطارات ببناتهن بشكل مزعج ومقلق دون أن تتوافر أية حماية أمنية للفتيات في هذه القطارات. ولعل ما يحدث أمام مدارس الفتيات الثانوية وأمام بعض المعاهد الخاصة يعطي مثالا واضحا لخطورة الوضع وللمعاكسات التي تعدت كثيرا مرحلة الغزل والعبارات إلي مرحلة اللمس والتعرض لأجساد الفتيات بشكل مزعج وفي وضح النهار ودون أن يجرؤ أحد من التدخل حيث يكون الشباب في أغلب الأحوال في شكل تجمعات ومسلحين أيضا بالأسلحة البيضاء من مطاوي وسكاكين وسنج وخلافه. ولقد ساعد علي بروز ظاهرة التحرش الجنسي العلني إلي السطح علي هذا النحو الغياب الأمني الذي كان ملحوظا في الشارع بسبب انشغال رجال الأمن في بعض السنوات بمكافحة ظواهر أخري مثل العنف والإرهاب وهو ما أوجد فراغا في الشارع بحيث أصبح الشارع متاحا للجميع يفعل فيه كل شخص ما يحلو له دون أن يكون هناك رادع أو قانون. ولما لم يجد بعض الشباب أن هناك اجراء يتخذ ضدهم عن قيامهم بالمعاكسات ومع ازدياد حالات الكبت الجنسي والعجز عن الزواج فإن المعاكسات تحولت إلي تحرش والتحرش إلي زيادة في معدلات جرائم الاغتصاب التي أصبحت يومية وخبرا عاديا في الصحف ووسائل الإعلام. إن حملات التوعية الأخلاقية لن تكون وحدها اداة فعالة لمواجهة التحرش الجنسي والمعاكسات في بلادنا ولابد أن تصاحب هذه الحملات إجراءات قانونية وعقابية وأمنية فعالة لضبط الشارع وطمأنة النساء وإعادة الصورة التي كانت ماثلة في الأذهان عن شوارعنا بأنها الأكثر انضباطا وأمانا عن شوارع العالم كله، فالحقيقة أن الصورة تهتز كثيرا الآن أمام عصابات نشل وخطف حقائب وسلاسل النساء وعصابات أخري جماعية تتحرش بالنساء في كل مكان ولا تكترث كثيرا إن كانت ترتدي الحجاب أو البنطلون لأن مخزون الكبت الكامن في أعماقهم أصابهم بعمي القلب وعمي البصيرة فتركوا لغرائزهم العنان. وليكن عام 2008 هو عام الأمل، الأمل في أن ندرك أننا ننحدر إلي الأسفل سريعا في الكثير من مناحي الحياة، وان علينا لهذا أن نحدد مواطن الخطأ بوضوح لنبدأ من جديد ونحاول أن نرتقي السلم مرة أخري وان يكون هذا البلد قوة جذب بعد أن تحول لقوة طرد مدمرة وعنيفة. [email protected]