ليس صحيحا أن الماضي يمكن أن ينتهي وليس صحيحا أن الحاضر لا صلة له بالماضي كما أنه ليس صحيحا أن المستقبل يمكن أن ينفصل عن الحاضر.. فكلها حلقات مترابطة ومتداخلة يغذي بعضها البعض ولا يعني ذلك أن الحاضر سيأتي نسخة مكررة من الأمس ولكنه يعني أن الحاضر سيأتي مستوعبا للماضي ومستجيبا للظروف القائمة وهذا ما يمكن أن يفسر لماذا حققت بعض الشعوب والمجتمعات تقدما بينما كانت بالأمس تعاني من التخلف والعكس صحيح فقد يأتي الحاضر أقل تقدما مما تحقق بالأمس إذا لم نستطع استبقاء وتنمية عوامل التقدم. وإذا كانت قصة الأمس وقضية الحاضر ورجاء المستقبل بالنسبة لمصر كما بالنسبة لغيرها تتمثل ويتجسد في التنمية البشرية بكل محاورها وابعادها وفي مقدمتها بعد ومحور التعليم والبحث العلمي فإن تلك القضية تستحق منا جميعا أيا كانت مواقعنا مسئولين أو مثقفين أو حكومات أو أحزاب أو نقابات أو مجتمع مدني تستحق منا بالغ الاهتمام.. ولعلنا نؤكد هنا علي القاعدة التي تقول "لكي تحقق شيئا مهما فإن عليك أن تكون مهتما".. والاهتمام هنا ينصرف إلي عدة عناصر وينطوي علي عدة مواقع لعل من أبرزها ما يلي: أولا: الادراك الواعي: ذلك أن الأمة التي لا تدرك بالوعي الكافي أن العلم هو سبيلها للخلاص من التخلف والتراجع فلا أمل لها في الحاضر أو المستقبل.. والادراك هنا هو شعور بالاحتياج ورغبة في التحقيق وقدرة علي الانجاز بالفعل والجهد والحاحا علي ذلك. ثانيا: التشخيص الأمين: ذلك أن عملية التطوير والتصحيح في منظومة التعليم والبحث العلمي إنما تستند إلي تشخيص أمين وصادق وعميق ومتخصص "للحالة" التي عليها تلك المنظومة بأركانها الخمس وهي المدرس والمدرسة والمنهج والطالب ونظم التقييم.. ولاشك أن تلك المنظومة بمختلف عناصرها تعاني من مشكلات وأوجاع حقيقية فالمدرسة والاستاذ ليس علي النحو الذي نريد والمدرسة والمعهد والجامعة ليست علي النحو الذي نتمني والمنهج والمحتوي ليسا ملائمين لاحتياجات أسواق العمل والطالب ليس هو الذي نريد كما أن نظام التقييم لا يقيس ولا يعكس سوي عوامل وأبعاد تتعلق بالحفظ والاستظهار ولا شك أن هناك جهوداً مخلصة تبذل للخروج من هذا المأزق نستطيع أن نذكر منها علي وجه الخصوص كادر المعلمين الخاص ومشروع قانون الجامعات وبرامج تطوير التعليم قبل الجامعي ونظم اعداد المعلم وتنمية قدراته وتوفير التدريب الملائم له. ولعل بعض الاساليب الجديدة المطروحة في عملية الاصلاح والتطوير والتي لم نتعود عليها مثل الاعتماد علي التعاقد والغاء التكليف الخاص بخريجي كليات التربية للعمل كمدرسين لأنه لم يكن النظام الأفضل لانتقاء الاكفاء تعتبر أساليب فعالة رغم ما قد تثيره من زوابع وهذا لا يمنع ولا يتعارض مع تطوير كليات التربية للاتقاء بكفاءة الخريجين. ثالثا: عملية التمويل: حيث يعتبر التمويل عنصرا حاكما في قضية تطوير التعليم والبحث العلمي وإذا كانت العين بصيرة ولكن اليد قصيرة بمعني عدم وجود التمويل الكافي فإن أمر الاصلاح والتطوير سيظل مجرد رغبات وأماني ولن يتحقق منه إلا النذر اليسير.. وهنا فإنه يلزم البحث عن مصادر تمويل خارج الموازنة العامة للدولة وليس الحل في الجامعات الخاصة التي تقوم علي الربح ولا تحقق نفعا ولا يرجي معها رجاء في عملية التطوير والاصلاح وقد يكون البديل أن ينهض المجتمع المدني لكي يسهم في هذا المجال بجهد وافر وهذا ليس ببعيد أو مستغرب فجامعة القاهرة قد أنشئت بالجهود الأهلية. رابعا: المشاركة المجتمعية القوية والفعالة: لاشك أن ارادة الناس وعزيمة الشعوب واصرارها هي العنصر الحاسم في إجراء أي اصلاح وبناء أي نهضة وإذا كان شاعر كجبران قد قال بحق إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.. فإننا نري أن المشاركة المجتمعية في حسم الخيار حول أهمية وأولوية اصلاح وتطوير التعليم والبحث العلمي هي العنصر الحاسم في تلك القضية. خامسا: المساندة والدعم من القيادة السياسية: لا يكفي لاصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي بمختلف عناصرها الادراك الواعي لأهمية تلك القضية أو التشخيص الصادق الأمين أو توفير التمويل اللازم أو المشاركة المجتمعية فكل حلقات تلك الادوات لا يمكن أن تعمل بكفاءة بدون دعم القيادة السياسية ووضع آليات للمتابعة والمساءلة وتوزيع الادوار علي مختلف الاطراف الفاعلة والمعنية.. فالآمال الكبيرة تحتاج إلي جهد كبير علي كل الأصعدة ولقد أولت القيادة السياسية اهتماما خاصا بقضية التعليم في مصر وقضية البحث العلمي ويجب أن يستمر هذا الاهتمام وذلك الدعم حتي تتحقق لنا ما نصبو إليه وحتي تصبح تلك القضية هي الشغل الشاغل لنا جميعا ولعل تجربة ماليزيا ليست عنا ببعيد.